من التونسيين معه كشهر العائلة والاحتفال بالحياة سواء أكان الصوم عن عادة أم عن عبادة او كان المفطر عن عذر او عن قناعة.
لهذا قد كان رمضان طوال سنين مرت من اهم اسس العيش المشترك والهوية الثقافية لعموم التونسيين، ضمن سياق رسمه التدين الشعبي، قبل ان تتدافع المرجعيات والمشاريع الدينية والسياسية الباحثة عن فرض قواعد جديدة تشكل ابعاد العيش المشترك وكيفية تقاسم الفضاء العام. وكانت أولى الخطوات استهداف التدين الثقافي الشعبي المشترك وإحلال تدين جديد يكون منطلقا للفرز بين المسلم «الصحيح» ومجتمع الجاهلية الذي تمتد حدوده بين من لا يحمل من الإسلام غير الظاهر أي التدين الشعبي وبين من ينتسب لغيره من دين او قاناعات. وهذا في اطار تصور سياسي بالاساس.
وقد ادى ذلك الى تدافع عاشت البلاد على وقعه حينما انتشر التدين السلفي الوهابي الذي يرفض وجود طقوس مغايرة له تنافسه وتزاحمه في وجدان التونسيين، لهذا تم استهداف التدين الشعبي واستهداف طقوسه الاحتفالية وعاداته التي كفرت ووصفت بأنها ردة الى الجاهلية.
في تلك الفترة تمتع التدين السلفي الوهابي بدعم الدولة التي قلصت من مجالات العيش المشترك وهدمت بقصد او دونه عناصره المهمة وهي التدين الثقافي وذلك حينما سمحت باستهداف مقامات الاولياء ومحاولة فرض اللباس الشرعي والنقاب وأخيرا استهداف المفطرين في رمضان وغيرها من محاولات فرض النمط الوهابي للتدين.
فترة عصيبة مرت بها البلاد ونجحت نسبيا في مغادرة مربعها الخطير بفضل التقاء حدثييها وتقدمييها مع محافظيها ومع حملة التدين الثقافي الشعبي، وهي اليوم تقطع خطواتها بعيدا عن التعصب الديني وتتخلص من مظاهره العامة وتدفعه الى الانسحاب الى فضاءات خاصة.
في المقابل ظلت الدولة تحمي «بذور» التعصب بشكل غير مقصود وذلك لعدم سعيها للتخلص من مظاهر التعصب المخفية في سلوكيات يومية تقلص مجالات العيش المشترك وتبحث عن فرض نمط عام مثالي يرسم حدودا لكل شيء في الملبس والمشرب والقناعات والعبادة ويفرض هذا على الجميع باسم الدين او الصالح العام . من ذلك السلوك الامني والقضائي في التعامل مع المفطرين في رمضان واعتبارهم يخلون بالأمن العام.
اليوم ومع استقبال شهر رمضان مع أول ايامه التي مرت دون سلوكيات عاشت على وقعها تونس خلال السنوات الفارطة، وهي استهداف المقاهي والمفطرين سواء من قبل اجهزة الامن او المتعصبيين، وجب التذكير بان رفض المختلف والذهاب الى تجريمه اوتخوينه اوتكفيره تجسيد لفكرة أن المجتمع يقوم على التماهي ويتطور به وهي فكرة كشفت عن مكامن النقص فيها ومحدوديتها.
اليوم لا يقوم المجتمع على التماهي والتطابق بل على الاختلاف والحادّ منه في بعض الاحيان، اختلاف الدين والاعتقاد والميل الجنسي وممارسة القناعات والشعائر ورفض هذا الاختلاف تحت أي مسمى ليس الا تعصبا واستهدافا للارادة المستقلة والحرة للفرد الذي إذا لم يصدر عنه ما يضر بالاخر او يمسه باذى فانه حر في اطار فضاء تنظم فيه اطر العيش المشترك.
عيش مشترك لا يمكن ان يتحقق ما لم تتقدم الدولة والمجتمع بخطوات في اتجاه ادارة الاختلاف وتنظيم الفضاء العام لاستيعابه واستيعاب عيش المختلفين في ظل قواعد التسامح التي لا تحاصر الفرد ولا معتقداته ولا تسعى لفرض «نمط» عليه، دون عيش مشترك ينظم الاختلاف والخلاف بين التونسيين لن نتمكن من تحقيق «الرفاه» ولا حتى كفاف العيش.
فتونس وطوال سنواتها الفارطة عانت من التقدم بخطوة والتراجع باخرى في رسم ملامح العقد الاجتماعي الذي ينظم قواعد العيش المشترك ويحرر الطاقات الكامنة في كل فرد من افراد المجتمع التونسي.
مجتمع يعيش اليوم تحت وقع ازمات عدة وتجاذبات سياسية غذتها الشعبوية اقترب من نسف كل مكتسباته واولها العيش المشترك القائم على التنوع والاختلاف، وتونس عاشت هذه التنوع ومعه عرفت ازدهارها ورقيها، واليوم هي في حاجة الى ان تعود اليه والى نبذ التعصب والتشدد سواء أكان دينيا او ثقافيا او أي نوع من التعصب القائم على رفض المختلف.