إذ دون الحاجة إلى تخصص عميق أو معرفة شاملة، سيتسنى لك أن تصنّف (دون أن تكون أمك صنّافة) الأطفال في علاقتهم بهذه اللعبة إلى قسمين: قسم يستمتع بالبناء وآخر يتلذذ بالتفكيك.
بصورة أدق: يصبر الأطفال البنّاؤون على مسار تركيب المكعبات بما يجعلهم جديرين بشعور الفخر أمام عبارات المدح التي لا يبخل بها عادة الكبار على الصغار بغض النظر عن النتيجة. أما صنف المهدّمين، فلا ناقة لهم في مسار البناء ولا جمل. وبالتالي، يكون أملهم الوحيد الحيلولة دون استفادة الأطفال البنائين من متعة مدح الكبار وإطرائهم. فإذا هم يتدخلون لتهشيم ما بناه إخوانهم أو أصدقاؤهم. وإذا سئلوا عن ذلك، لا يحتجون بطبيعة الحال إلا بالخير وحسن النية وصفاء السريرة. من ذلك أنهم لم يعجبهم ما بناه الآخرون. أو لعلهم يدّعون أنهم يريدون استغلال، تلك المكعبات بالذات لتشييد ما هو أفضل.
تقول الحكمة الفرنسية: إن الأفضل عدو الفاضل. أي أن ادعاء السعي الدائم لما هو أحسن ينتهي إلى شكل من أشكال الهوس بتهديم الموجود على اعتبار أنه لا يحقق المثل ولا يقترب من الكمال. لذلك، فإنه لا يفي بالغرض، ومساوئه غير قابلة للتحمل. ألا يذكّركم هذا بما تعيشه تونس منذ سنوات؟ ألا يذكّركم ذلك مثلا بسياق الثورة وما تلاها من إنكار لما في تونس من إيجابيات؟ ألا يذكّركم ذلك -أيضا- بالخطاب السياسي العام الذي يتغذّى على الصعوبات التي يعيشها التونسيون من أجل الكفر بتونس واعتبار تجربتها في الانتقال الديمقراطي خرابا على خراب، وذلك دون تنسيب أو نظر أو تمحيص أو مقارنة. يفعل البعض ذلك ثم يسبّون الشعبوية. ألا يعلم هؤلاء أنهم هم من أعدوّا لها تونس حصيرا؟
إذا كان مسار الانتقال الديمقراطي جهدا من البناء، يمكن تشبيهه بلعبة المكعبات وما تتضمنه من تجربة وخطإ وصبر وحاجة دائمة إلى التطور، فإن الخطاب السياسي التونسي قد أدّى إلى انتصار نزعة الهدم في أقذع تجلياتها. انتصرت هذه النزعة حتى أنها تعتلي اليوم السلطة وتتفرّد بالحكم دون رقيب ولا حسيب. وأصبح كل صوت يعلو للمطالبة بحماية المكتسبات يعني الحنين لمساوئ الماضي. وكأن الماضي سوء مطلق. وكأنه يمكن بناء مستقبل خال من المساوئ، إلا أن يكون الهدم قد أتى عليه، فإذا هو خال من كل شيء.
يا لها من جريمة، أن يحنّ التونسي إلى ماض كان يصبو فيه لبناء إنساني لا يمكن بطبيعته إلا أن يكون منقوصا، كأي بناء إنساني آخر! يالها من جريمة، أن ينبذ العقل منطق التهديم الذي يدعي التجديد والنضج! يدّعي التجديد في حين أنه أقدم من الإنسان نفسه بما أنه يحيل على غياب العقل والقدرة على تقدير العواقب. ويدّعي النضج وهو أكثر طيشا من الطفولة التي يتنازعها البناء والهدم.
هنيئا لكم بنصركم أيّها السعداء. ها قد أصبح الإصلاح في تونس رديفا للتعليق والتجميد والتفكيك والهدم. ها قد أصبح «الحل في الحل»، كما يحلو لبعض المتحذلقين من السعداء أن ينمّقوا خواء أفكارهم بالجناس أو السجع أو الغرق في الإعراب. هنيئا لكم، فبعد التدمير لن يبقى للنقد أي مجال. و«إذا كان من لا يعمل لا يخطئ»، فإن من لا يبني لا ينتقد. وإذا انتقد، فتلك ألسنة مسعورة وأقلام مأجورة تحنّ إلى الماضي ومساوئه.
اصمتي أيتها الألسنة! جفّي أيتها الأقلام! الأفضل آت لا ريب فيه! ألم يقض الرئيس «الأيام الأخيرة» في إعداد مرسوم سيصدر في «الأيام القليلة القادمة»؟ أليست أيّامه كألف مما تعدّون؟ انتظروا يرحمكم الله! هل تحسبون أن تشييد بناء من المكعّبات «غير مسبوق في التاريخ» أمر بسيط؟ كلا، إنه شأن عسير، على «المنكّلين بالشعب» غير يسير. ولا يقدر عليه إلا رئيس واحد، في بلد واحد، لشعب واحد.
في غضون هذا الانتظار، كونوا إيجابيين! فكروا (أعزّكم الله) في مؤسسة لم يتمّ بعد تعليقها أو تجميدها أو حلها. حاولوا مثلا أن تكتشفوا هيئة لم تتعرض بعد للدغات لسان الرئيس العطرة. إذا لم تجدوا فأعينوه بالصمت، كما أمركم والي تونس. وإذا وجدتم، فأعينوه بالشتائم كما يفعل باقي أنصاره. ولا تنسوا أن في تونس شعبا واحدا (كما ذكّرنا والي بن عروس). هو شعب واحد حتى وإن لم تجمعه إلا الشتيمة. ولا تنسوا أن لتونس أيضا رئيسا واحدا، حتى وإن لم تحركه سوى نزعة الهدم. فلا مجال لترك غيره يضرب الدولة من الداخل. فذاك لعمري اختصاص يروم أن يحتكره سعيد السعداء.
أيّها المارقون الذين تقولون إن الرئيس لم يلمس شيئا إلا هدمه، اعلموا أن ذلك بالتحديد سرّ نجاحه. وافهموا أن ذلك هو أيضا مصدر البهجة التي تغمر أنصاره، وأنه أصل التأثير الذي ينبعث من خطابه. تلك هي الجنة التي وُعد «الصادقون» الذين تم «فرزهم». وذاك هو التمرّد الذي يغري الشباب ويغوي
المتصابين. إنه «الشباب على الدواب» والتصابي على الدوام. وإذا كانت الدواب تحمل الأجسام، فإن التصابي يذهب بالعقول. إنه الشباب المتحلل من كل عقال، المطلق لكل إرادة. وكل تغيير لا بد أن يمر عن طريقه، متجاوزا حكمة الكهول وقيود الواقع وحذر العقول.
إذا كان الشباب يدعى اليوم لتعويض طبقة البروليتاريا في فرض جنة «غير مسبوقة في التاريخ»، فإن التصابي يعوّض الماركسية في تحديد طبيعة العدو الذي يراد التحفّز لمحاربته. ويظهر ذلك جليّا من خلال خواء في الخطاب لا حدود لعمقه. لكنه خواء منمّق يؤثر في من ليس له ما يخسر.
لا تنبغي الاستهانة بالتنميق في الخطاب، خاصة إذا تحالف مع نزعات الهدم والتفكيك. ذلك أن الخطاب المنمّق يقف حاجزا أمام اكتشاف الناس لحقيقة ما يدعون إليه. بل إنهم لا يقدرون بسبب السجع والجناس والغرق في الإعراب وغيرها من أساليب البلاغة أن يشعروا بأن الخطاب المقترح يحوّلهم إلى أطفال من صنف المهدمين الذين تدفعهم مشاعر الحسد للاستمتاع بالهدم دون أفق للبناء.
إن التصابي الذي نزل بتونس يعد مريديه بعالم جديد «غير مسبوق». ولكن شرطه من أجل تحقيقه يبقى تدمير العالم الذي سبق بناؤه، أو على الأقل تدمير ما يكفي منه لإيجاد مجال لهذا «البناء الجديد». إنها «الآنارشية» أيها السعداء! وما نعتها بالبناء إلا من قبيل المجاز أو لزوم ما لا يلزم. فوحدها «الآنارشية» تستفيد من الهدم الممنهج.
أيها السعداء، إذا وسوست لكم عقولكم بشيء من الحيرة، فسألتكم أنفسكم (لا سمح الله): لمَ نحن سعداء؟ لا تحزنوا، حتى وإن كان ما تدعون إليه مخيفا فعلا. ولكنه مخيف فقط للعقول ولأصحابها. أما أنتم، فأصحاب (إرادة) يسحركم المجاز ويغويكم الإعراب. ألم تروا كيف يكسر الصبيان ألعابهم في نشوة وغبطة؟ ثم يبكون بعدها في ندم وحسرة. لذا لم يبق لي إلا أن أقول: اضحكوا اليوم أيها السعداء!