من كل القيود والكوابح الّتي تعيقه عن تحقيق العدالة الّتي يصبو إليها التونسيون.
المدخل الّذي كان يعتقد الجميع أنه سيحقّق النقلة النوعية في استقلالية القضاة ونجاعة القضاء في أدائه، هو المجلس الأعلى للقضاء الهيكل الذي كان مطمح أجيال من الحقوقيين، شأنه شأن المحكمة الدستورية. ولكن بيّنت التجربة أن المطمح صعب التحقق ، في غياب الأرضية الملائمة وغياب العقلية المستوعبة لمتطلبات هذه الإستقلالية و مقتضيات تحقيق العدالة المرجوّة لذلك استنفرت عدّة جهات ممثلة للقضاة منذ توجيه رئيس الجمهورية قيس سعيد لانتقادات واضحة لأداء القضاء، و توقّع المتابعون للشأن العام إمكانية حل المجلس الأعلى للقضاء إثر 25 جولية 2021. لكن صدر المرسوم عدد 4 لسنة 2022 المؤرخ في 19 جانفي 2022 المتعلّق بتنقيح القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، اكتفى بتنقيح الأحكام الّتي تمسّ من المنح المسندة لأعضاء هذا المجلس.
هذا التنقيح أثار ردود فعل من بعض القضاة ومن المجلس نفسه الّذي اصدر بيانا نبّه فيه من خطورة ما أسماه بـ«المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية» من خلال إصدار المرسوم المذكور باعتبار أن الفصل 113 من ادستور ينص على أن «المجلس الأعلى للقضاء يتمتع بالاستقلال الإداري و المالي والتسيير الذاتي، ويعدّ مشروع ميزانيته ويناقشه أمام اللّجنة المختصة بمجلس نواب الشعب».
أعضاء المجلس هم أوّل العارفين بأن ميزانية مجلسهم لم تناقش أمام اللّجنة المختصّة المذكورة بسبب تجميد أعمال مجلس النواب بموجب التدابير الاستثنائية التي اتخذها قيس سعيد في 25 جولية 2021 ولم يصدر عن مجلسهم أي موقف بخصوص الميزانية المخصّصة لهم، وهو أمر لا يتوقف على المجلس بل يشمل كل المؤسسات والهيئات الّتي تخضع في السير العادي إلى مصادقة مجلس النواب.
تبعا لذلك بدا رد فعل المجلس الأعلى للقضاء غير مقنع لا من حيث «التجريح « القانوني في المرسوم و لا من حيث المس من استقلالية القضاة الّذين دعاهم المجلس إلى التمسك بإستقلاليتهم، وكل ذلك في خلط واضح بين إستقلالية القضاة والاستقلال الإداري و المالي و التسيير الذاتي للمجلس الأعلى للقضاء، وفي تجاهل تام للفصل الأول من الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلّق بالتدابير الاستثنائية والذي علّق جميع اختصاصات مجلس النواب و الفصل 5 من نفس الأمر الّذي جعل تنظيم العدالة والقضاء يتخذ شكل مراسيم .
من وجهة نظر قانونية و بقطع النظر عن أي توصيف و عن أي موقف سياسي ،هذا المرسوم الأخير هو المنطبق حاليا و في ظله يتمّ التفاعل إلى حد الآن مع السلطة العليا للدولة رغم كل المؤاخذات الّتي يتمّ التعبير عنها من هنا و هناك.
للتذكير كان المجلس الأعلى للقضاء محل نقد من القضاة والمحامين و بقية المنضوين فيه و من منظمات المجتمع المدني وهو أمر لم يحصل بعد 25 جويلية 2021 فقط، بل حصل منذ أن نشر مشروع قانونه الأساسي عند التداول في شأنه إبتداءا من 12 ماي 2015 بمجلس نواب الشعب ، ثم بعد بعث هذا الهيكل و بعد متابعة أدائه. فالجدل الّذي تابعناه آنذاك لم يتمحور حول مبدإ إستقلال القضاء و تكريس مفهومه في العمل القضائي الصرف ، وإنمّا بقى يدور حول مهام المجلس الأعلى للقضاء واختصاصاته و تركيبته وكيفية تسييره ومراقبته وحدود سلطاته ونفوذه . فالمبدأ الدستوري القائل بأن «القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون»لم يكن محل نقاش، وإنما تحقيق ما يأمله المتقاضي، و قد أكدنا على ذلك عند مناقشة المشروع بالقول بأن «المهم أن يعي كافة المتدخلين في الشأن القضائي، أن ما ينتظره المواطن هو حسن الأداء و حسن القضاء و إيصال الحقوق إلى أصحابها بأسرع الآجال وضمان مساواة الجميع أمام القانون وحماية حقوق الناس من كل أنواع الفساد في مختلف المفاصل دون أي إستثناء..» (إفتتاحية «المغرب10» ماي 2015).
لا أحد يقول أن أداء المجلس الأعلى للقضاء كان مرضيا، وأن أوضاع القضاة تحسّنت ، لذلك تبدو عملية الإصلاح ضرورية و لا بد من البدء فيها بتشريك جميع الأطراف المعنية والحقوقيين و منظمات المجتمع المدني وعلى الأطرف المنضوية في هذا المجلس أن تقيّم تجربة السنوات الّتي مضت ،و الوقوف على مواطن الخلل ، لإجراء إصلاحات عميقة تعيد النظر في المنظومة القضائية ككل و عدم الاكتفاء بـ«الترقيع» لتهدئة الخواطر ، لأن الشأن القضائي يهم كل التونسيين و هو ضمن أولويات إصلاح أوضاع البلاد...