حول تحديد الطريق الأسلم لإنقاذ البلاد من الأزمة التي تتخبّط فيها على كل المستويات. هذه التفرقة السياسية تجسّمت في الشارع ،بوضع الحواجز خوفا من التصادم في جوّ إكفهرّت فيه سمات الوجوه ، في حين تجسّمت وحدة التونسيين في الشارع الرياضي و على المدارج في غمرة من البهجة التي رافقتهم طيلة أيام الدورة.
قد تكون نفس البهجة التي رافقت شرائح واسعة من عموم الناس إبّان 25 جويلية 2021 تاريخ تفعيل الفصل 80 من الدستور التونسي عندما صفقوا لقيس سعيد قبل أن يطالبوه بأن يضع خارطة طريق تتضمن تحديدا للسقف الزمني الّذي تنتهي فيه التدابير الاستثنائية التي تمّ بموجبها تجميد مجلس نواب الشعب وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه كرئيس حكومة و كوزير داخلية بالنيابة وجمّع فيها رئيس الجمهورية كل السلطات. لكن كانت هناك جهة مقابلة ارتفعت فيها الأصوات المعارضة لما أقدم عليه سعيد في ما اعتبره مجابهة للخطر الداهم أو الجاثم ، أصوات ارتفعت مع شق من أنصار حزب النهضة وحلفائه ،للمطالبة بالتراجع عن تلك التدابير الّتي اعتبروها إنقلابا على الشرعية و إيذانا بالدكتاتورية. في ذلك الوقت وبقطع النظر عن التأويلات و المؤاخذات القانونية انتظر المتفائلون تغيير الواقع وأملوا في أن لا ّ يكون ذلك بإعادة نفس السياسة و لو بشعارات مختلفة ، أو بشعبوية «خادعة» تعالج الظاهر و تترك التغيير الحقيقي للواقع بأفكار جديدة خلاقة تبني للمستقبل، في ظل سيادة القانون دون تشف، و تركيز دعائم حقيقية لدولة القانون والمؤسسات الّتي لا تتأثر بالفاعلين العابرين، و إنما ترتكز على الآليات الدائمة المحركة لمختلف المسارات بتفاعل و تناغم.
لم يحصل المأمول بخصوص تغيير الواقع المعاش و التوصل إلى الحد من آثار الأزمة الاقتصادية لكن بدأت تظهر ملامح خارطة الطريق الّتي أخضعها سعيد للنزول «قطرة – قطرة» بداية من التسميات في وزارات السيادة في أعقاب إقالات وإعفاءات و تسمية رئيسة حكومة ، ثم تشكيل حكومة لها ، ثم إصدار أمر تنظيم الحياة السياسية ، نهاية بما تم الإعلان عنه في الأيام الأخيرة بخصوص تحديد الاستحقاقات القادمة بداية من سبر الآراء الالكتروني والاستفتاء، نهاية بتحديد موعد الإنتخابات في موفى شهر ديسمبر 2022.
اختلفت تدخلات رئيس الدولة في المضمون و لكنها تشابهت في لغة التخاطب والتواصل، وكنا قد لمسنا لسعيد عذرا لتبرير البطء في إتخاذ قراراته ، معيدين ذلك لإكراهات السرعة الّتي استوجبتها التدابير الجديدة و عدم إمتلاكه مسبقا لخطة جاهزة لتحديد متطلبات المرحلة الإنتقالية. لكن المتابع لسعيد، عذرا في طريقة التواصل مع مكونات الشعب التونسي واللّهجة الحدّية الّتي تطبع كل تدخلاته عند استقباله لمن يدعوهم إلى قصر قرطاج، وعند مخاطبته للشعب حيث حصل الانطباع بأنه لا يجد أريحية في التواصل الهادئ و الرصين، وبأن يستمتع أي استمتاع، في رشق المعارضين والخصوم والمنتقدين وكل من يخالفه الرأي بكل النعوت بل يختار أبشعها بالتليمح أحيانا وفي أحيان أخرى بالعربي الارتجالي الفصيح.
هذا الحرص على انتقاء ما يثير حفيظة الجميع في قالب (ضمائر مبنية للمجهول، معرّفة بالوصف)، بمن فيهم غير المعنيين، بسهامه، حرص لا مبّرر له بل هو رشق مجاني لا يتناسب مع متكلم باسم الدولة التونسية بإعتبار أنه رئيس لكل التونسيين، من أولوياته انتهاج خطاب تجميعي مطمئن.
لا شك أن الخطاب المستفز للرئيس سعيد ،يجعل معارضيه يتوخون نفس الأسلوب في تدويناتهم على شبكة التواصل الاجتماعي وفي تدخلاتهم على المنابر الإعلامية كذلك في الشارع كما حصل يوم 17 ديسمبر 2021 في شارع بورقيبة و في الشوارع المتاخمة .
ردود الفعل هذه الّتي كانت في البداية مبنية على مؤاخذات قانونية ، تغير فحواها على مدى تقدم أيام الانتظار و أصبحت تتحولّ شيئا فشيئا إلى مؤاخذات سياسية ، و ذلك بسبب البطء في إتخاذ القرارات و بسبب فحوى الخطابات الّتي أصبحت تمنح فرصة للتوسع في الرد والانتقاد.
ولكن ما يلاحظ أنه بعد الاستجابة لما كان يطالب به جانب من معارضي سعيد و حتى جانب من مؤيديه، ظهرت خطب واتهامات جديدة شبيهة بتلك التي كانت ترفع ضد بن علي ، و صادرة تقريبا عن نفس الوجوه الّتي كانت غائبة ومنسية، تنسب لرئيس الدولة التضييق على الحريات والمس من حرية التظاهر و التجمع، رغم أن هؤلاء يصرحون بكل ذلك علنا في مسيرات الاحتجاج وعلى المنابر و أمام أنظار الجميع ، ممّا يضفي على هذه المواقف ، نوعا من التحامل السياسي الناجم عن تبرّم المنظومة القديمة و رغبتها في إزاحة قيس سعيّد قبل تنفيذ خارطة الطريق الّتي أعلن عنها .
ورغم تسليم أغلب التونسيين بمن فيهم معارضو سعيد بأن الرجوع إلى الوراء أصبح أمرا غير ممكن، فإن مواصلة رفع شعار «الرجوع إلى الشرعية»، يبدو حاملا لتخوفات من تغيير النظام السياسي عبر نصوص دستورية جديدة لذلك تحرك مناهضو سعيد بقوّة، وخاصة التشكيلات الطامحة لحيازة مواقع في السلطة، وصعدوا في طرق خطابهم ببث الترهيب السياسي، لقطع الطريق أمام خارطة الطريق المعلن عنها.
هذا التحول في خطاب معارضي سعيد، يبدو في الظاهر مرتكزا على رؤية موحدّة ومن منطلقات واحدة، وفي الحقيقة، تختلف المنطلقات وتختلف هواجس الأطراف. فالتشكيلات التي تتحرّك من خارج المنظومة الحاكمة السابقة ، كادت تكون غائبة عن المشهد السياسي وفاقدة لأي مرتكزات شعبية، و لم يسمع لها صوت عندما كانت البلاد تتمزق و تنهار في ظل سياسة الترويكات المتعاقبة الّتي أوصلت البلاد إلى ما هي فيه . لذلك نراها تتحرك اليوم في محاولة للبحث على موطئ قدم في محاولة لاستعادة الشتات. أما المنظومة القديمة الّتي كانت ماسكة بالسلطة وفي مقدمتها حركة النهضة، الّتي تصدّعت هياكلها وتفكّكت وحدتها، فإنها تريد إعادة بناء كيانها بمحاولة قيادة الجبهة السياسية المناهضة لسعيد، سواء لمنع هذا الأخير من إنجاح خارطة الطريق ولو ببث الفوضى وعدم الاستقرار، أو في حالة فشلها في تحقيق ذلك، إعادة رص صفوفها استعدادا للاستحقاقات القادمة للحفاظ على مواقعها و كي تبقى عنصرا فاعلا في سياسية البلاد بقطع النظر عن المخرجات المستقبلية.
هذه المتغيّرات ، تكشف عن أن تونس مقدمة على الأشهر القادمة على فترة صعبة جدّا ، وتضع رئيس الجمهورية و الحكومة أمام جبهات متعدّدة تقتضي تعديل طرق معالجة الأزمات و البحث بعقلية و أسلوب جديدين عن سبل تجنيب البلاد مزيدا من التأزم.
في أسبوع ساخن: الكرة توحّد والسياسة تفرّق ..
- بقلم المنجي الغريبي
- 10:52 20/12/2021
- 964 عدد المشاهدات
في الوقت الذي اتحد فيه التونسيون في رفع صوت واحد مناصرة للفريق الوطني لكرة القدم في نهائي البطولة العربية، تفرقت «النخب» السياسية و الفكرية