على أنظار الجمهور المنبهر قائلا: «الجميع يشهد أنه يرى هذه الساعة». صاح الجمهور أن نعم. استأنف الساحر قائلا: «أقترح الآن أن أضع الساعة في منديل مسحور. ثم أكسرها بمطرقتي هذه حتى تصير في داخل المنديل حفنة من الزجاج. ثم أضع المنديل دون أن أفتحه في صندوق سحري. ثم أتلو على الصندوق كلمات سحرية. وحين أفتحه سنجد الساعة قد ازدادت ألقا وقيمة، وقد اختفى المنديل وزجاجه».
صاحت زوجة صاحب الساعة: «ولكنها ساعة ثمينة». صفّر الجمهور باشمئزاز: من هذه المرأة التي تتجرأ على التشكيك في قدرات الساحر؟ أما الساحر، فقد نظر إليها باحتقار وقال: «من هذه البائسة التي لا تحترم إرادة الجمهور. نحن هنا في خدمة الجمهور. ولن ندخر جهدا في تحقيق إرادته. ويحلم الآن من يعتقد أنه بالإمكان العودة إلى الوراء».
اشرأبت أعناق الجمهور حين وضع الساحر الساعة في المنديل، وبدأ يهوي بمطرقته عليها حتى كاد يسويها بالطاولة التي كانت أمامه. كانت الصيحات تهزّ المسرح كلما هوت المطرقة على ضحيتها. بعد أن فرغ الساحر من التهشيم، رفع المنديل في فخر واعتزاز، فإذا هو حفنة لا شكل فيها. صفّق الحاضرون إلا البعض. وكان منهم صاحب الساعة الذي بدا حيران قلقا. ولكن الساحر نظر إليه، وقال: «انظروا إلى هذا الذي انقلب على عقبيه. لقد كفر بعد إيمان. ولكنه البناء الجديد. إنها عملية غير مسبوقة في التاريخ. بالإرادة نأتي بالمعجزات». قال صاحب الساعة: «عجّل بإرجاعها إلى صورتها الأولى. فإني أثق فيك وفي سحرك. ولكن من حقي أن يطمئن قلبي». قال الساحر: «بل إنك انتهازي أردت ساعة أفضل. إنه البناء الجديد ...» واسترسل يعيد خطبته العصماء أو ما شابهها. فعل ذلك حتى سئم الحضور من الكلمات الرنّانة. وأخذوا يطالبون بإحضار الصندوق السحري وبالنطق بالكلمات الموعودة حتى يروا أثر السحر ويصدّقوا ادعاء الساحر.
حين علم الساحر أن زمن الفعل قد حان، صاح بحارس المسرح أن أحضر الصندوق. نظر الحارس في بهتة، وقال: «أيّ صندوق؟» خيّم حينها الصمت على المسرح حتى صاح الساحر مزمجرا: «لقد سرقوا صندوقي السحري. إنهم يتآمرون ضدي. إنهم حشرات تكره النجاح، ولا تحبّ الجديد. إنهم خونة يسعون إلى تأليب الجمهور على بطلهم الذي كسر الساعة استجابة لإرادتهم. وإن لحظة الانتقام آتية حين يأتي أوانها».
ما أشبه ساحرهم برئيسنا. كسر منظومة دستورية كان قد عزّ بناؤها. لم يشأ المساهمة في إصلاح ما تعطب منها. فهو صاحب «البناء الجديد» غير المسبوق. ولا يمكن أن يبدأ إلا بإلغاء كل ما مضى. ثم إن الساحر لا ينزل إلى مستوى الحرفي. فهو متشبه بالإله، إذا قال للشيء «كن»، فلا بد له أن يكون.
اكتشف الرئيس بعد 25 جويلية تدريجيا أن بينه وبين ما تريد سيادته (باسم الشعب) عقبات لا تكفي الخطابات الرنّانة والكلمات السحرية لتجاوزها. وبعد أن ألقى اللوم على الأشرار من «خونة وفاسدين وحشرات وجراثيم وفيروسات»، علم أيضا أنه لا بد أن يجد من يتقاسم معه المسؤولية إما بلعب دور كبش الفداء الذي يشرب من دمه أنصار الرئيس المتعطشون للانتقام، أو بلعب دور العصا التي تهوي على جلود المنتقدين باسم القانون. ولمّا كان الرئيس قد تحمّل مسؤولية التشريع والتنفيذ والفتوى الدستورية، لم يجد أمامه إلا القضاء كي يستدعيه للاضطلاع بهذه الأدوار «التاريخية».
لا أحد ينكر حاجة القضاء التونسي إلى الإصلاح. ولكن لا أحد _فيه ذرّة عقل_ يصدّق أن الإصلاح المنشود يبدأ من خلال التوجه إلى القضاء بالقول: «ليس القضاء سلطة، إنما هو وظيفة». ثم لا أحد يصدّق أن من يقول: «للأسف حكم على فلان بالبراءة» يقصد فعلا استقلال القضاء. إنما نحن إزاء حاكم يتصرف مع القضاء كبعض صفحات التواصل الاجتماعي التي تمجد القضاء إن هو حكم كما تريد، كي تسبّه بعد حين عندما لا يحكم كما تريد.
هؤلاء ينسون قاعدة بسيطة مفادها أن القضاء ليس معصوما. ولكن المجتمعات مضطرة إلى التعامل معه وكأنه معصوم، وذلك لأنه الملاذ الأخير للحسم. وفي غياب الحسم، قد تغيب السلم الأهلية. لذا تمنع الدول التعقيب على الأحكام الباتة للقضاء وفق مبدإ علوية الأحكام القضائية. تمنع ذلك على مواطنيها المتمتعين بحرية التعبير، ناهيك عن أصحاب المسؤوليات المحكومين بطبيعتهم بواجب التحفظ قبل الحكم وبعده.
أحسنت أيها الرئيس. أمتعت يا سيادة الأستاذ. أقنعت أيها المصلح المجدد. إذا كنت ترغب في دخول التاريخ، فاعلم أنك قد دخلته بالفعل من باب كتب عليه «من السحر الدستوري إلى الشعوذة القانونية».
لقد أسكت الرئيس كل «النفّاثات في العقد» القانونية والدستورية؛ تلك «النفّاثات» التي كانت مستعدة للتضحية بسمعتها في كلياّت القانون، بل -حتى- بشرفها في المواطنة، من أجل الدفاع عن سحره الدستوري. أسكتها بانتقاله إلى الشعوذة القانونية. أسكتها بعد أن فشلت في إسكاتها حجج المختصين وبراهين العلماء، بل وحتى صراحة النصوص نفسها. وبعد أن عرّضت تلك «النفّاثات في العقد» بكل صوت طالب بعدم تهشيم البناء الدستوري بمطرقة السحر الدستوري، هاهم يعجزون اليوم حتى عن الهمز واللمز. من الذي أعجزهم؟ أعجزهم كبيرهم الذي علّمهم السحر.
إننا اليوم ننتقل (بحمد الله) من تسييس القضاء إلى «قضينة» السياسة. وقضينة السياسة هي أكبر أشكال تسييس القضاء. إذ يتحول بموجبها المرفق القضائي إلى كبش فداء لتبرير فشل صاحب السلطة. وأخطر من ذلك أن يتحوّل إلى عصا يضرب بها الحاكم خصومه حين تعجز كلماته السحرية وخطاباته الرنّانة.
يعترف أكثر الملاحظين بأن القضاء التونسي كثيرا ما وقف موقفا سلبيا من تجاوزات السياسة. فضاعت الكثير من الحقوق بعد أن عمّ شك مطبق عن قدرة هذا الحكم الأخير على الحسم. ولكن هناك فرق شاسع بين من يطالب القضاء بالخروج من سلبيته من أجل خدمة العدالة، ومن يطالبه بالخروج منها من أجل خدمته هو.
تعني قضينة السياسة إغلاق كل مجال للنقاش العام، وذلك باسم تحرير القضاء من السياسة. فالحاكم يقول: إن الخيار الوحيد لمنع تسييس القضاء تحويله إلى «وظيفة» في خدمة السلطة السياسية. وهكذا نحمي القضاء من التسييس، لا من خلال الاستقلالية، ولكن من خلال احتكار التسييس. وما يسقط كل شرعية عن القضاء. فيستحيل التعامل معه على أنه الملاذ الأخير.
على هذا الأساس، يكون النقاش حول إمكانية الإصلاح في ظل نظام الحكم الحالي قد حسم عمليا. وحتى لو افترضنا نجاح القضاء في إصلاح شيء مما أفسدته مطرقة الرئيس، فإنه سيحقّ لخصوم الرئيس أن لا يعترفوا بالحسم، وأن يطالبوا باستمرار المعركة. وهو ما يعني أنه، ما دام قيس سعيد في السلطة، فلن ينظر خصومه إلى القضاء حين يحكم ضدّهم إلا كعصا جاءت لتعويض المطرقة، وذلك لضرب السياسيين باسم الشعوذة القانونية بعد أن ضُربت المؤسسات باسم السحر الدستوري.