إذ نزل منسوب الثقة الكبيرة فيه الى حدود %30 وكان – رغم تقدمه الواضح على كل منافسيه في نوايا التصويت في الرئاسية - يحتاج ،نظريا ، لدور ثان بينما هو في حدود %90 اليوم ومنذ الدور الأول ..
ما الذي يفسّر هذا التحول العميق في الرأي العام؟ وماذا تخفي وراءها هذه النسب شبه الإجماعية؟
هنالك ولاشك خيط ناظم بين هذه الجموع الغفيرة المساندة لقيس سعيد، وهو وضع حدّ لما نسميه اليوم في تونس بالمنظومة التي حكمت البلاد في هذه العشرية والتي كانت حركة النهضة تمثل وجهها الأكثر وضوحا وهيمنة .
والسؤال هنا هل تساند كل هذه الملايين قيس سعيد لنفس الأسباب ولنفس الغايات أم أن لكل جزء من الرأي العام غاية في نفس يعقوب ؟
الباروميتر السياسي وسبر آراء نوايا التصويت الأخيران («المغرب» الجمعة 22 أكتوبر والثلاثاء 26 أكتوبر ) اللذين تعدهما مؤسسة «سيغما» بالتعاون مع جريدة «المغرب» يسمحان لنا بتقديم إجابة أولية نستمدها بصفة مباشرة أو غير مباشرة من المعطيات العديدة التي نشرناها .
يمكن أن نقسم مساندي قيس سعيد إلى ثلاث مجموعات كبرى:
• المجموعة الأولى ترى أن إنهاء حكم الإسلام السياسي أولوية الأوليات اليوم
• المجموعة الثانية تريد استكمال المسار الثوري الذي اندلع في سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 والذي خانته نخب المركز يوم 14 جانفي 2011
• المجموعة الثالثة ترى أن عشرية الثورة قد دمرت البلاد وخربت الاقتصاد مع ما يعنيه ذلك من ضعف الدولة وتراجع الخدمات الاجتماعية واهتزاز الشعور بالأمن في البلاد ،وهذه المجموعة تريد الغلق النهائي لقوسي الثورة .
هذه المجموعات الثلاث – المتحركة بطبيعة الحال – تمثل اليوم عموم المساندين لقيس سعيد والذين يجهل جلهم المعالم الأساسية لمشروع «البناء الجديد» الذي يبشر به رئيس الدولة منذ سنوات، فأنصار «البناء الجديد» أو «البناء القاعدي» هم جزء من المجموعة الثانية التي أشرنا إليها والتي يريد أصحابها استكمال الثورة التي أجهضت في المهد ..
نحن إذن أمام مجموعات التقت في نقطة واحدة تتكون من عنصريين متلازمين : ضرورة إسقاط «منظومة النهضة» وان قيس سعيد هو الوحيد القادر على ذلك ، ولكن هذه المجموعات الثلاث تختلف جذريا في أهدافها السياسة وفي تموقعاتها الاجتماعية وفي نوعية الحلول التي تراها كفيلة بتحقيق الغلق النهائي لقوسي «منظومة النهضة».
في الحقيقة نحن إجمالا أمام مجموعتين أساسيتين متباينين في طبيعتهما الاجتماعية : مجموعة استئناف المسار الثوري من جديد من جهة ومجموعة غلق هذا المسار بصفة نهائية من جهة أخرى ، أما المجموعة الأولى ، إنهاء حكم الإسلام السياسي ، فهي لا تمثل مجموعة سوسيولوجية في حد ذاتها وإنما هي تتبنى موقفا عاما نجده مقسما عند المجموعتين آنفتي الذكر كذلك حتى عند بعض معارضي قيس سعيد .
لو نعود إلى عملية سبر آراء نوايا التصويت لشهر أكتوبر 2021 والتي نشرناها في «المغرب» يوم الثلاثاء 26 أكتوبر سوف نجد توصيفا سوسيولوجيا أوليا لهاتين المجموعتين عندما تحدثنا عن القاعدتين الانتخابيتين للدستوري الحر ولـ«حزب قيس سعيد» في نوايا التصويت للتشريعية .
يمكن أن نقول أن أنصار «حزب قيس سعيد» يمثلون إجمالا من يريد استئناف المسار الثوري على غير الطريق الذي سار فيه فعلا خلال هذا العقد الأخير بينما قد يمثل انصار الدستوري الحر بصفة تقريبية كل من يريد غلق قوسي الثورة بصفة نهائية.
ورغم أن الدستوري الحرّ يتموقع اليوم في المعارضة الا أن حوالي 80 ٪ من قاعدته الانتخابية متفائلة -اليوم- بالوضع العام في البلاد وهذا ما يسمح لها بإحداث نوع من التماهي بينها وبين مساندي قيس سعيّد.
لقد رأينا في عددنا المشار إليه أن الشرخ الاجتماعي كبير جدا بين المجموعتين اللتين تتقاسمان «مناطق» النفوذ بصفة متساوية ومتناقضة في نفس الوقت .
تونس مقسومة بالطول مجاليا : الجهة الساحلية الشرقية من الشمال إلى الجنوب تتعاطف أكثر مع الدستوري الحر بينما تذهب مهجة الجهة الغربية الداخلية (من الشمال إلى الجنوب أيضا ) من هم دون 45 سنة يصوت جلهم لحزب قيس سعيد بينما يصوت البقية أساسا للدستوري الحر .
الطبقة المرفهة والطبقة الوسطى العليا للدستوري الحر بينما تكون الطبقة الوسطى السفلى والطبقة الشعبية في صف «قيس سعيد» وأخيرا يميل الى حزب قيس سعيد الاقل تحصيلا معرفيا بينما يحصل العكس تماما مع أصحاب التحصيل المعرفي المرتفع..
نحن أمام صورة تقريبية لا تنفي بالطبع حصول عكس ما قلنا عند أجزاء مهمة من القاعدتين الانتخابيتين ولكننا نضع أيادينا على مواطن التناقض الأوضح والأبرز .
إجمالا القوة الضاربة لمن يريد استئناف المسار الثوري هي في الفئات التي لم تستفد لا من الثورة ولا من الفترة التي سبقتها وهي ترى أنها مع قيس سعيد سيكون لها أمل جدي في التغيير بينما تكون القوة الضاربة لمن يريدون الغلق النهائي للمسار الثوري عند الفئات الأكثر اندماجا اقتصاديا واجتماعيا ومعرفيا وهي التي ترى أن «الدولة الوطنية» هي الأقدر على النهوض بتونس من» دولة الثوار» أيا كان هؤلاء «الثوار» ولا أدل على ذلك من تأكيد حوالي %60 من التونسيين أن الوضع قبل الثورة هو أفضل من وضعية العشرية الأخيرة.
في المحصلة الدعم شبه الاجماعي لقيس سعيد ينبني على ما يمكن أن نسميه بسوء التفاهم التاريخي بين مكونات هامة في المجتمع المدني وان وحدة الموقف بينها مرتبطة اليوم باسقاطات كل واحدة منها على مستقبل الفعل الرئاسي وهذا ما يعني بصفة شبه آلية أننا أمام دعم ضخم محدود ضرورة في الزمن وانه كلما تقدمت الممارسة الرئاسية تراجع هذا الدعم لان الفعل الرئاسي سيغضب حتما بعض الاطراف ..
سلطة الكلمة والسياسة الرمزية قد تواصل في توحيد هذه المجموعات أما تواتر القرارات العملية وانتهاج سياسات عمومية بعينها قد تجعل هذا الرصيد يتآكل وقد تدفع بسوء التفاهم التاريخي هذا إلى سطح الأحداث والى تموقعات جديدة غير تلك السائدة اليوم.