أمام أنصاره في سيدي بوزيد يوم أول أمس أكد رئيس الدولة مرة أخرى أن الثورة التونسية التي انطلقت من سيدي بوزيد يوم 17 ديسمبر 2010 تم اختطافها وتحويل وجهتها يوم 14 جانفي في تونس،والمقصود هنا ليست تلك المظاهرة الضخمة أمام وزارة الداخلية ،فتلك مازالت مندرجة تحت خانة «لحظة 17 ديسمبر» بل تلك «الصفقة» التي حصلت بين المنظومة القديمة وعناصر من منظومة جديدة بصدد التشكل والتي أعطت للبلاد حكومات محمد الغنوشي الأولى والثانية وحكومة الباجي قائد السبسي والهيئات الانتقالية كلها ثم المجلس الوطني التأسيسي وأخيرا دستور 2014 كمكثف لاحق وسابق لكامل هذه المنظومة «الجاثمة» على البلاد لافقط منذ الثورة بل قبل ذلك بعقود كثيرة .
ماهي «المنظومة» التي يريد قيس سعيد استبدالها ؟
هي ما يسميه بعضهم بنخب «المخزن» القديم والجديد أي بعبارة أوضح نخب المال والأعمال والسلطة (الدولة العميقة) والإدارة والأحزاب والنقابات والجمعيات والمنظمات المهنية والإعلام .. أي كل الذين يتحكمون في «النظام المرئي» والذين يعدون في الخفاء الصفقات و«التوافقات» بين مختلف مكونات هذه النخب.
هذه المنظومة هي التي سرقت وتسرق إرادة الشعب وقوته ولا تترك سوى الفتات من المال ليقتات به ووهم المشاركة في السلطة عبر صندوق الاقتراع، بينما تواصل هي التحكم في كل شيء مهما كانت نتائج الانتخابات.
«صفقة» 14 جانفي هي التي أنقذت هذه المنظومة من الانهيار ومنعت «الانفجار الثوري» لـ 17 ديسمبر من التمدد إلى حدّ القضاء المبرم والنهائي على كل هذه النخب .
وبما أن «لحظة» 25 جويلية هي في قطيعة مع 14 جانفي وهي مواصلة وإحياء للحظة 17 ديسمبر فمن الطبيعي إذن أن تكون أولى أولوياتها القضاء على هذه المنظومة لا تعيين الحكومة التي تريدها هذه المنظومة للالتفاف مجددا على «لحظة» 25 جويلية و«إجهاض» الثورة بصفة نهائية ..
لكن كيف السبيل إلى إلغاء هذه المنظومة وكل شبكاتها المعقدة والمتحكمة في كل شيء وفق التوصيف الفعلي لصاحب قرطاج ؟ يكون ذلك بخنقها تدريجيا إلى حدّ القضاء عليها أو على الأقل التقليص الأقصى من فاعليتها ..
كيف سيكون ذلك ؟
تتمثل الخطة الرئاسية في التالي: الرفض المطلق للحوار مع كل مكونات هذه المنظومة، أي قطع كل خيوط التواصل بين مختلف مكونات هذه المنظومة مع السلطة الفعلية المتمثلة في رئيس الجمهورية وهذه هي سياسة «الخنق» أي القضاء على اوكسيجين العديد من النخب وهي صلتهم وحظوتهم لدى صاحب القرار السياسي .. وقد رأينا بصفة فعلية كيف خنق رفض الحوار أجزاء هامة من النخب التي وجدت نفسها دون ذلك المدد التقليدي مع دوائر القرار ومطابخه ..
ولكن ما كل النخب تعيش بفضل هذا الوصل مع السلطة، فأدوارها الاجتماعية تكمن في معارضتها والتصدي لها، أو في الاستغناء عنها.. هكذا على الأقل قد تبدو الأشياء في نظرة أولى..
في الحقيقة استقلال النخب عن الدولة نسبي للغاية في بلد كتونس إذ تبقى الدولة عندنا هي اللاعب الأساسي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وقطعها لكل وسائل التواصل معها سيضعف كثيرا كل النخب خاصة اذا ما كانت هذه القطيعة تامة وشاملة ومتواصلة في الزمن..
لكن في هذه الحالة ستصاب الدولة بدورها باختناق قد يؤدي بها إل الهلاك لأن الدولة تتغذى بدورها بتواصلها وبالشرايين الممتدة بينها وبين كل هذه النخب..
القضية إذن هي عملية كسر عظام محدودة تضعف أجزاء من النخب كثيرا وخاصة منها السياسية وتقطع التواصل -مثلا- بين أهل السياسة وأهل المال مادام الأوائل لم يعودوا يملكون نفعا ولا ضارا للثواني، ولكنها قطيعة محدودة ومدروسة الهدف منها خلق منظومة جديدة ترسكل حتما أجزاء من المنظومة القديمة ولكن بقيادات سياسية في قطيعة جذرية مع المنظومة القديمة ..
تداول المنظومات والنخب على السلطة ليس بالأمر الجديد في تاريخ الشعوب ولكنه ينبع عادة من ثورة اجتماعية وسياسية كبيرة أو من تغيرات علمية وتكنولوجية هائلة ولكن تونس اليوم ليست في هذه الوضعية وبالتالي التداول بين النخب في زمن قصير لا يمكن أن يكون إلا قسريا وبفعل قوة الدولة فقط ليس إلا ..
ثم إن النخب –بالمعنى الواسع للكلمة– ليست مجموعة من الكائنات الغريبة المعزولة بل هي في صميم النسيج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لبلد ما والفصل الحاد بين نخب من جهة وشعب من جهة أخرى لا يستقيم في أي بلد وعادة ما يكون الاحتماء بالشعب حيلة لنخب جديدة تريد اقتسام أو افتكاك السلطة المادية والمعنوية دون أن يعني ذلك ضرورة عالما أفضل لعموم الناس..
ما الذي يملكه رئيس الدولة في حربه المعلنة على كل نخب البلاد ؟ هو يملك السلطة ولاشك بما في السلطة من قوة وشوكة وهو يملك أيضا تأييدا شعبيا واسعا ، إلى حد الآن ، كما يملك تغيير قواعد اللعبة (القانون الانتخابي .. الدستور ... قانون الجمعيات..قانون الأحزاب... إلغاء الهيئات المستقلة..) ولكن النخب والأجسام الوسيطة تملك عنصرا قويا للغاية وهو عامل الزمن الذي يشتغل حتما ضد الماسك بالسلطة إذ هو المطالب لوحده بالانجازات والإصلاحات والنتائج خاصة وهو الذي قد استحوذ واستفرد بكل مكونات السلطة التنفيذية. وعندما ستنفدُ كل طاقة رئيس الدولة في محاربة «المنظومة» دون إنجاز إصلاحات ايجابية تذكر لسائر المواطنين سيصبح فقط صاحب حكم وباحثا عن السلطة.
ثم إن ننسى فلا ننسى أن جزءا كبيرا من مناصري قيس سعيد اليوم لا يريدون استكمال ثورة 17 ديسمبر بل القطع معها ومع كل ما أنتجته وهم يعتقدون أن صاحب قرطاج سيخلصهم من التهويمات الثورجية كما أن قطاعات واسعة من معارضي «مشروع» الرئيس إنما هم منخرطون في المسار الثوري التونسي ..
قيس سعيد في قمة شعبيته اليوم لأنه يجمع اليوم تناقضين أساسيين: امتلاك فعلي لجل مكونات السلطة من جهة وعدم إقدامه على أي خطوة نوعية من جهة أخرى فشعبيته الكبيرة مستمدة من هذين الأمرين معا ولكنها شعبية قصيرة المدى إذ أن الكل يدعونه، من مواقع ومصالح متناقضة، إلى الفعل، وكل فعل هام سيؤدي بالضروري إلى غضب جزء من أنصار الرئيس، وكل فعل هام لا يؤتي أكله سيؤدي بدوره إلى غضب الشق الآخر ..
قيس سعيد أمام مفترق طريق فإما «ثورة هادرة مدوية بقيادة فردية لا تقبل الشراكة أو إصلاح منهجي ومتواصل في مغامرة جماعية تتجاوز شخصه وأفكاره المخصوصة ..
يبدو أن الرئيس قد اختار – أو هو بصدد اختيار – الطريق الأولى .. والسؤال هل أنه قدّر كل الإمكانيات وكل المخاطر وحجم المغامرة التي سيدفع بها البلاد ؟
ذلك هو السؤال ..
«القضية ليست قضية حكومة، القضية قضية منظومة» ماهي المنظومة التي يريد الرئيس تفكيكها ،وكيف سيفعل هذا ؟
- بقلم زياد كريشان
- 09:07 22/09/2021
- 1299 عدد المشاهدات
من خطاب إلى آخر يتضح مشروع قيس سعيد في أبعاده المختلفة كما يتضح معه مشروعه للبلاد حتى لو حافظ على غموض وضبابية في تفاصيل كثيرة مهمة.