منها ما يتسم بالرومانسية كتوقع العودة إلى الوضع «الطبيعي» بعد عدول الرئيس «سعيّد’’ عن قرارته وعودة الرشد إليه وتحكيم العقل إذ لا إمكانية لحماية الإنجازات إلاّ بالرجوع إلى المسار «الديمقراطي»، ومنها ما يبدو «واقعيا» فالمفترض تعيين رئيس وزراء و’حكومة تكنوقراط’ والانطلاق في الاستعداد للانتخابات السابقة لأوانها في مناخ سياسي يعترف الجميع بأنّه شديد الاضطراب، ومنها ما هو موصول إلى «ثقافة التوافق» إذ سيتمكّن الرئيس من فرض «خارطة الطريق» على الأحزاب والمرجّح أنّها ستقوم على الدعوة إلى استئناف البرلمان لأعماله مع إجراء الانتخابات المبكّرة، ومنها السيناريو المتماهي مع تجارب الانقلابات إذ يُتوقع تحويل «الانقلاب البيروقراطي» إلى «انقلاب عسكري» . غير أنّ هذه الفرضيات والتوقعات والتخمينات والقراءات سرعان ما ضاعت في مهبّ الريح ذلك أنّ خطط»الرئيس» تظلّ مجهولة ومنفلتة وعصيّة على الفهم وغير قابلة لإخضاعها لآليات التحليل «التقليدية» وهو أمر لم يزعج النخب السياسية التونسية فحسب بل أثار مخاوف عديد الشخصيات الأجنبية المرتبطة بدوائر النفوذ.
وفي ظلّ مشهد إعلامي وسياسي قام طيلة سنوات ،على تنافس «المحلّلين» من أجل تقديم القراءة «الصحيحة» للواقع السياسي، وحرصهم على التموقع في دائرة «الجهابذة» والأكثر قدرة على الفهم وفكّ الشيفرات والأكثر معرفة بما يجري في كواليس القصر، والبرلمان والرئاسة...لنا أن نتصوّر المأزق الذي يعيشه هؤلاء «المحلّلون» بعد أن نفذ رصيدهم ، وتقلّص رأسمالهم وفضح أمرهم وما عاد بإمكانهم الزعم بأنّهم قادرون على قراءة التطورات وتوضيح القرارات بنفس النزعة «الوثوقية» المعهودة. وهنا صحّ القول إنّ قرارات التجميد و«تعطيل» ملكة الفهم قد شملت النواب والسياسيين وكذلك المحلّلين. وهنا تغيّر خطاب بعضهم فاعترفوا بقصورهم عن فهم ما يجري بينما استمرّ أغلبهم في ادّعاء الإمساك بخيوط اللعبة.
ولئن كان هذا وضع من امتهنوا التحليل فما هو وضع رئيس «أكبر حزب في البلاد»؟
إنّ ما يسترعي الانتباه في تصريحات الغنوشي منذ 25 جويلية هو الإرباك الحاصل على مستوى صياغة المواقف وإنتاج الخطابات، وهو أمر يقيم الدليل على أنّ «الزلزال» السياسي قد دكّ القواعد الصلبة للحركة وبعثر الحسابات وأضعف القدرة على ابتكار الاستراتيجيات. فقد تجاورت خطابات الوعد والوعيد والتهديد بحرب الشوارع مع خطاب الحوار والجلوس إلى طاولة التفاوض، وتحوّل الانقلاب بقدرة قادر، من أداة لهدم التجربة الديمقراطية إلى فرصة ثمينة للإصلاح والانطلاق من موقع مختلف، وتبدّدت المخاوف من عودة الاستبداد وصار الحديث عن استعداد النهضة للمشاركة في الحرب على الفساد وبناء مسار الإصلاح الفعليّ.
وبيّن أنّ تموقع النهضة في البدء، في إطار الحزب المعارض لقرارات «قيس سعيّد» والمدافع عن الثورة والاستحقاقات والديمقراطية لم يجد المساندة الكافية من داخل الحزب إذ كيف لمن تربّع على العرش أكثر من 40 سنة أن يزعم أنّه ينتصر للديمقراطية؟ وأنّى لمن لم يؤمن بالانتقاد والتداول والحوكمة الرشيدة و... أن يقود معركة ضدّ المستبد؟
ولم يتمكّن «الغنوشي» من التأثير في القواعد وفي عموم التونسيين وإقناعهم بأنّه يريد الدفاع عن مصلحة التونسيين إذ كيف يجوز لمن تواطأ مع «بارونات الفساد» وغضّ الطرف عن «المفسدين في الأرض’ أن يلبس ثوب المصلح العادل؟
إنّ مسار 25 جويلية يستدعي تواضعا «معرفيا» كبيرا وبحثا دؤوبا عن عدّة منهجية جديدة ومحاولة للتكيّف مع السياق الجديد حيث يمسك الأب بزمام الأمر ويغلّق الأبواب ويسدّ المنافذ ويستمتع بأنّه الشخص الوحيد القادر على تحريك خيوط اللعبة وأنّه «الملغز» ولعلّه من المفيد في هذا الإطار، العودة إلى تاريخ تشكّل السلطة في روما واليونان حيث امتزجت سلطة ربّ العائلة بسلطة السياسي.
وطالما أنّ كلّ محاولات الفهم والتحليل وتقديم الفرضيات والتوقعات أثبتت «محدوديتها» فلا بأس من الاعتراف بأنّ الزلزال لم يكن سياسيا فحسب بل إنّه عبث بطرائق الفهم وأساليب التحليل .
المحلّلون بين ادّعاء الفهم وتهافت الخطـــاب
- بقلم امال قرامي
- 10:10 27/08/2021
- 1287 عدد المشاهدات
قدّم عدد من المحلّلين السياسيين وأساتذة العلوم السياسية والقانون الدستوري التونسيين والأجانب عددا من «السيناريوهات» الممكنة لإدارة مرحلة ما بعد 25 جويلية: