بمناصب سياسية لم يقع التنصيص على ضرورة ان يشغلها قاض عدلي بقانون.
«ان تأتي متأخرا» هي اقرار بالتقصير في ضمان شروط استقلالية السلطة القضائية، التي لا تتحقق فقط الا بالتنصيص على الفصل بين السلط او بالتشديد على ان القضاء سلطة مستقلة ولا سلطان على القاضي الا ضميره والقانون.
تقصير وقع تداركه في اجتماع مجلس القضاء العدلي اول امس الاثنين 8 جوان 2021، باصدار قرار انهاء الالحاق لكل القضاة المعنيين في مناصب سياسية سواء في مؤسسة الرئاسة او في الحكومة ودواوينها ووزاراتها اضافة الى الهيئات التي لم يقع التنصيص في القانون المحدث لها على شغل قاض عدلي لخطة محددة فيها.
هذا القرار الذي قدّم من قبل المجلس على انه نتيجة حرص المجلس واعضاؤه على «تكريس مبادئ الاستقلالية والحياد» ويهدف الى «النأي بالقضاء عن اية تجاذبات سياسية»، والقصد هنا ان يغلق المجلس بابا كانت تتسلل منه السلطة التنفيذية والاحزاب الحاكمة الى القضاء لتؤثر به وفيه.
مدخل للاسف كان من منطلق تعيين قضاة في مناصب سياسية سواء في مؤسسات الدولة او في اجهزتها وهيئاتها الدستورية والوطنية، على غرار منصب رئيس الهيئة المستقلة لمكافحة الفساد، الذي اقيل منه القاضي عماد بوخريص وحل محله القاضي عماد بن الطالب علي فكان القطرة التي افاضت الكأس.
اذ ان قرار رئيس الحكومة اقالة بوخريص وتعيين زميل له في سلطة القضاء مكانه والجدل الذي رافق الامر والتجاذب الذي احتدم اكثر بين الرئاسة والحكومة على خلفية القرار، يبدو انه ما عجل بحسم النقاشات السابقة في المجلس واصدار قرار انهاء الالحاق.
وهذا يتجلى اكثر في البيان والأهداف التي قيل ان القرار يعمل من اجل تحقيقيها، ومن بينها حماية سمعة القضاء والقضاة والناي بهما عن التشكيك والتشوية وابعادهما من دائرة التجاذب السياسي والصراع بين مؤسسات الدولة التي رفعت من نسق بحثها عن كسب ودّ القطاعات المهنية والمنظمات وحماية نفسها باستعمال ورقة «المناصب» التي مكنت كل القائمين على اجهزة الدولة منذ 2011 من اختراق القضاء والتدخل في شؤونه واحاكمه للأسف.
اختراق بات المجلس يعمل على الحد منه اولا وإلغاءه ثانيا، عبر قرار انهاء الالحاق وترك الخيار بيد القضاة. إما الاستقالة من منصبه كقاض او الاستجابة لقرار المجلس وإنهاء الحاقه بالمنصب الذي يشغله. خيارات وفرها مجلس القضاء العدلي لمنظوريه وهو يستعد لاصدار قرارات فردية لانهاء الحاق القضاة العدليين الشاغلين لمناصب في مؤسسة الرئاسة والحكومة والوزارات والهيئات باستثناء المناصب الوجوبية بنص القانون الذي يشترط في تركيبة هيئاته وجود قاض عدلي سيقع تمكينه من مذكرة تعيين وقتية.
خطوة قطعها المجلس في طريق ضمان استقلالية القضاء وغلق اي منافذ للتسلسل اليه، لكنها لن تكون كافية ان لم يقع الاستئناس بها من قبل باقي المجالس القضائية، ومنها مجلس القضاء المالي ومجلس القضاء الاداري واخيرا المجلس الاعلى للقضاء. اذ ان المجالس القضائية بات مناطا بعهدتها اليوم ان تدافع عن استقلاليتها التي لا تتجسد إلا في ضمان استقلالية المسار المهني للقاضي او في توفير حماية قانونية له ومنع وقوعه تحت سلطة او تاثير السلطة التنفيذية، بل ان الاستقلالية لا تتحقق لا بتوفر ثلاثة مقومات اساسية.
الاولى هي منع تدخل السلطة التنفيذية او التشريعية في المسار المهني للقضاة، اي في ترقياتهم ونقلهم، والثانية بيد القضاة وهي ضميرهم الذي يعول عليه لضمان سيادة القانون والعدالة، والثالثة غلق كل المنافذ الممكنة لتسلل السلطتين التشريعية والتنفيذية الى القضاء.
غلق يتمثل في تحصين القاضي من الاغراءات التي تقدمها السلطتان التفيذية والتشريعية له لشراء وده، اما عبر مناصب سياسية تمنح او يتم الوعد بها، وهذا يؤثر على القاضي ويجعله خاضعا للابتزاز بعد ان تجرفه الطموح السياسي.
ولتجنب الخلط، من حق القضاة ان يكون لهم طموح سياسي، هذا لا يمكن سحبه او نفيه عنهم، ولكن عليه ان يختار اذ لا يمكن الجمع بين القضاء والمنصب السياسي، ففي هذا ضرر ليس فقط بالقضاة وسمعتهم بل بالبلاد كذلك.
والامثلة عديدة عن الضرر الذي تسبب فيه الجمع بين المنصبين والتداخل بين السلط وما اسفر عنه من تعثر للانتقال الديمقراطي طوال السنوات الفارطة قبل ان يتفاقم الوضع باقحام القضاء وجعله اداة لتصفية صراع سياسي بين مؤسسات الدولة.
اليوم اقدم المجلس على خطوة عملاقة في مسار تحقيق الاستقلالية ولكنها تظل غير كافية ما لم ينتفض القضاء التونسي للدفاع عن نفسه وعن التونسيين. وهذا لن يتحقق ما لم تلتحق باقي المجالس القضائية وتنسج على منوال مجلس القضاء العدلي.