إمبراطوريات العصور الحديثة، فالمرض في الأشخاص كما في الأمم قد يكون مؤذيا بما كان يسميه الفلاسفة الفساد أي التحلل والموت ..
تونس اليوم مريضة بالمعنى العميق للكلمة، ومرضها يستفحل يوما بعد آخر.. مرض تتداخل فيه الأعراض بالعلل إلى درجة يستحيل معها التمييز بين الاثنين لأننا في حلقة دائرية مفرغة كل ما فيها هو علّة وعرض في نفس الوقت.
في كل جسد عليل توجد خلايا عديدة سليمة ولكن المنظومات هي التي فسدت أو «جُنّت»، وما تبقى من خلايا سليمة لا تستطيع إيقاف الانحلال رغم غلبتها العددية أحيانا ..
في تونس مازالت لدينا منظومات إلى حدّ ما سليمة وأفراد عديدون يشتغلون بجد وتفان في كل القطاعات ،وهذا ما سمح لنا ،إلى حدّ الآن ،بمواصلة الحياة رغم الوهن الذي يصيب بصفة متسارعة منظومات حيوية في البلاد ولكن لابدّ من الإقرار اليوم بأن معاول الهدم أضحت أقوى بكثير من عناصر البقاء،وما كثرة المنقذين من هنا وهنالك إلا دليل إضافي على غلبة التحلّلّ المؤدي إلى الفساد / الموت..
كل هذا يحصل في بلد صغير إلى حدّما حقق إنجازات مهمة منذ استقلاله بدءا بسيادته الوطنية وإصلاحاته الجسورة في مجالات الأسرة وحقوق النساء والتعليم والصحة والبنية الأساسية وتنوع النسيج الاقتصادي وحيويته ثم خلنا بان الثورة بوعودها الديمقراطية قادرة على إصلاح أخطائنا الماضية وأنها ستضعنا بعد سنوات قليلة في سكة تنمية أكثر عمقا وأقوى إدماجا ورفاهية مشتركة متنامية بفعل الحكومة الرشيدة والعمل وضخ الذكاء والارتقاء في سلك القيم ..ولكن «حيلة التاريخ» قضت بغير ذلك فتراجع كل شيء وتعمقت أزمة الثقة بين جميع مكونات المجتمع الجديدة وزادها غياب الكفاءة واستفحال الامتيازات الجديدة والصراع المضني بين مختلف قبائل تونس.. كل هذا زادها أزمة على أزمة وافرز لنا نخبا سياسية - حكما ومعارضة - أضحت بدورها - كمنظومات لا كأفراد – معاول من معاول الهدم ومكونات لأزمة جديدة خانقة امتدت إلى ما بقي سليما من منظوماتنا الأساسية ..
في ظل صراع كسر العظام المآل الوحيد دمار البلاد وفقدانها لما بقي فيها من مناعة اقتصادية واجتماعية،ولكن لدينا يقين بأن الإنقاذ مازال ممكنا وأن الفساد ليس قدرا محتوما شريطة أمر واحد لا ثاني له :
وقف إطلاق نار جماعي يعقبه صلح وقتي بين كل أبناء البلد حكما ومعارضة من أجل أمرين اثنين : تلافي ما فاتنا في مجابهتنا لهذه الجائحة الصحية القاتلة بحوكمة رشيدة صارمة ويبذل قصارى الجهد لربح معركة التلاقيح ثم إنقاذ بلادنا من الإفلاس والقبول بتقاسم التضحيات الضرورية من أجل تحقيق التوازنات المالية المعقولة ودفع الاستثمار وخلق الثروة لإخراج الغالبية الساحقة من مواطنينا من دوائر الفقر المدقع والخصاصة والتهميش..
الحل هو أن نقبل بالتعايش مع بعض لا حبّا وغراما بل اقتناعا بأننا فوق مركب واحد وتحيط بنا أمواج عاتية من الجهات الأربع.. الحل هو أن يعترف رئيس الجمهورية بشرعية الحكومة والبرلمان وان تعمل كل مؤسسات الدولة في تناغم واحترام وان يقود رئيس الدولة ديبلوماسية نشيطة مع كل مكونات البلاد لربح هذين التحديين الصحي والمالي/الاقتصادي وان يقود رئيس الحكومة سياسة إصلاحية جسورة وفق عقد اجتماعي تتقاسم فيه كل مكونات الإنتاج الأجزاء المتناسبة من التضحيات وان تضع الحرب أوزارها بين كل مكونات المشهد السياسي أغلبية ومعارضة وان يتعاونوا من أجل تحصين البلاد ومراقبة الحكومة وتغيير كل ما ينبغي تغييره في منظوماتنا القانونية لا فقط في النظام الانتخابي بل في مجالات حقوق الإنسان والعدالة الجبائية ودعم الانتصاب للحساب الخاص ...
بقينا أن بلادنا،لو عمدت إلى هذا الحلّ، ستكون قادرة في غضون سنوات قليلة على تجاوز هذه الأزمات المستفحلة اليوم وان تتهيأ للرهان الجدي على المستقبل بإصلاح عميق لمنظوماتنا التربوية والتكوينية وللدفع بأقصى سرعة مكنة لتنمية مستدامة وعادلة وان تتنافس في ذلك كل الأحزاب والمنظمات ..
ينقصنا شيء واحد لتحقيق كل هذا : العقل !!!
صراع عبثي بين رأسي السلطة التنفيذية وغياب الحوكمة الرشيدة لجل المنظومات وتنامي الشعبويات الفارغة والقاتلة.. أما آن لنا أن نستفيق ؟ !
- بقلم زياد كريشان
- 09:25 04/05/2021
- 1218 عدد المشاهدات
منذ حوالي قرن كان يقال عن الإمبراطورية العثمانية أنها الرجل المريض في أوروبا، وقد انتهى هذا «المرض» بتفكك كلي لإحدى أهم