أوضاع تدور فيها النخبة المثقفة والسياسية في نفس حلقات السبعينيات والثمانينيات، بخطابات متشابهة، وتطفو فيها فقاقيع جديدة على مياه راكدة ، في مشاهد لا تقلُّ تعاسة أو بؤسا عمّا تتظاهر الحكومة بالقيام به.
حوارات و نقاشات تعاد على إسطوانة مُجرّحة ، تبدو شاحبة و متخلّفة عما عرفته تونس في فترة بناء دولتها الحديثة حيث كانت مسكونة بوهج متحرّر و صادق لمواطنيها ، في نخوة إنهاء الإستعمار المباشر ، و على وقع طموح تحرير إرادتها وكسر كل القيود الّتي تربطها بالتخلف و التبعية و بكل أشكال الاستعمار الجديد الّتي لخّصها بورقيبة في أكثر من خطاب في دعوات صريحة للأنظمة العربية والمتخلّفة إلى الإنصراف إلى العلم والمعرفة و«تغيير الأدمغة» لمجابهة أسباب التخلف والتقهقر والإنحطاط.
بعد خمسة وستين عاما من الإستقلال يتحول بعض نواب الشعب إلى محيط مقر فرع منظمة غير تونسية محسوبة على التنظيم العالمي للإخوان المسلمين ، لمؤازرتها والحول محل السلطة ، متناسين بأنهم ممثلو الشعب في البرلمان، واستباح نفس النواب تقريبا أو من يدور في فلكهم أمن المطار و أمان المُؤمنين على أمن الحدود في سابقة لم تشهد البلاد مثيلا لها ، في محاولة لفرض «قانونهم» و تحدي مؤسسات الدولة و المس من إعتبارها في الدّاخل والخارج.
يقف التونسي أمام حقائق مريرة ،تثبت أن البلاد تتقهقر يوما بعد يوم ،فيتضاعف الإحساس بالإحباط والقهر أمام غياب إرادة فاعلة لوقف التيار الّذي يعصف بأركان الدولة .
في كل عام نعيد تقريبا نفس الكلام لنفتخر بمظاهر حرية التعبير و ممارسة الحريات النقابية و السياسية عموما وتشريع النصوص الدستورية و القانونية الجميلة ،و «تأمين» حرية المرأة و تحقيق نجاحات عسكرية و أمنية ضد الإرهاب ، و لكن نقف في كل مرّة ، لنؤكّد أن الأمن المعاشي الحقيقي ازداد تدهورا و أن وضع البلاد إزداد تهورا.
إن التشخيص الواقعي للأوضاع يكشف أن الأوضاع الاقتصادية متردية و أن السلم الاجتماعية مهدّدة وأن المؤشرات العامّة لا تُنبئ بخير ، و أن البدائل غير متوفرة في ظل أزمة سياسية ، يتناسى فيها السياسيون الإشكاليات الإقتصادية والتنموية الّتي تواجهها البلاد و تغض مؤسسات الدولة النظر عن الفساد المالي للعديد من الأحزاب السياسية والجمعيات
لضمان الصمت المتواطئ و التهدئة المصطنعة، في مهادنة للوبيات التهريب و الفساد للحفاظ على «متنفس» ما توفره التجارة الموازية لتموين الأسواق الشعبية لترضية الفئات الضعيفة والمتوسّطة على حد سواء ، في ظل تخلّي الدولة بنسق سريع عن دورها، لفائدة لوبيات طفيلية تستغل ضعف المؤسسات المركزية ، للإستثراء ولتثبيت سياسة الفساد .
هذه السّمات العامة للأوضاع الّتي يتكرّر إستعراضها لم تعد خفية ، لذلك سيسيطر التفكّك على المشهد السياسي العام، ونرى الإهتمام يُحوّل من معالجة القضايا الحقيقية و الحارقة ، إلى متابعة الهوامش والمسائل الخلافية المفتعلة، و البكاء على مؤسسات الدولة ، الّتي أصبح تحدّيها عملة رائجة.
لقد تم تجاهل ذكرى الاستقلال منذ سنوات وهو توجه بدأ يتأكّد ، لقطع الاجيال عن ماضيها و بإضعاف الحس الوطني فيها، والدليل على ذلك غياب أي سمة احتفالية بذكرى استقلال تونس الّتي أصبحت دبلوماسيات الخارج في مقدمة المذكرين بها. وأصبح الاحتفاء يقتصر على الإعلان عن العفو على بعض المساجين في لقطات عابرة ، أو بث برامج مستخرجة من أرشيف الحركة الوطنية تلخص سياسة أو مواقف بورقيبة ،ينفض عليها الغبار دون أي تحيين.
و رغم ما رُوّج قبل 20 مارس ، بأنه من المنتظر ان يخرج رئيس الدولة على التونسيين بخطاب منهجي يعلن فيه عن مبادرة في محاولة لتجاوز الأزمة السياسية الخانقة ، فإن لا شيئا من ذلك لم يحصل (إلى حد كتابة هذه السطور )و عبرت الذكرى باهتة ،و كأن رغبة الماسكين بالسلطة متّجهة نحو إجترار التاريخ دون أي فعل فيه ، متجاهلة، أن ذلك سيسجله التاريخ أيضا عن فترة عابرة من تاريخهم....