و ما حملته الساعات الـ48 الفارطة من تطورات شكلية في الازمة لا يمكن ان يعبر عنه ببلاغة إلا المثل الشعبي «زيد الماء زيد الدقيق» للإشارة الى ان الثلاثي: قصر قرطاح وقصر باردو والقصبة. يتبارون في تعقيد المسائل اكثر لتصبح عصية عن الحل.
ففي يومين متتاليين سجل تطور في الصراع بين المؤسسات الثلاثة، تجسد في بلاغين منفصلين اصدرتها كل من رئاسة الحكومة يوم الاربعاء الفارط والبرلمان يوم أمس. اعلن فيهما عما قدم على انه نشاط عادي للمؤسستين.
الاولى اتصال هاتفي جمع رئيس الحكومة هشام المشيشي بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، تناول فيه الرجلان وفق بلاغ الحكومة «سبل تطوير العلاقات التونسية الروسية وتنويعها بما يخدم مصلحة البلدين».
البلاغ الثاني الصدر عن المجلس تعلق بنشاط رئيسه راشد الغنوشي الذي اعلن انه استقبل بمكتبه معز بلحاج رحومة رئيس لجنة الفلاحة والأمن الغذائي والخدمات ذات الصلة بخصوص ملف الأرز المُسرطن.
هذا اللقاء الذي جمع رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة برئيس لجنة الفلاحة وعضو البرلمان عن حركة النهضة جاء فيه هو الاخر اشارة تتمثل في مكالمة هاتفية بين رئيس البرلمان ورئيس الحكومة قيل عنها بصريح النص التالي: اتصل رئيس مجلس نواب الشعب من ناحيته بالسيد هشام المشيشي رئيس الحكومة لإعلامه بخطورة الملف وضرورة متابعته قبل ترويج هذه المواد الغذائية الفاسدة بالأسواق، وشدّد على أهمية فتح تحقيق في الغرض ومحاسبة المتورطين.
في ظاهر الاشياء قد يكون البلاغان «طبيعيين» يتحدثان عن نشاط عادي لمؤسسات الدولة. ولكن هذين البلاغين لم يقتصرا على الاعلان بشكل صريح عن الاخلالات الشكلية التي وقع فيها الرجلان. ومنها اتصال رئيس الحكومة مع وزير الخارجية الروسي بدل ان يكون من يجري الاتصال نظيره اي وزير الخارجية التونسية وفق العرف الدبلوماسي. ولا في تعمد بلاغ المجلس الايحاء بان رئيسه كلف رئيس الحكومة بفتح تحقيق ومنع تداول الارز الفاسد.
وهذا مشهد جديد للصراع بين المؤسسات الثلاثة، وهو صراع انتقل فيه رئيس البرلمان ورئيس الحكومة من الدفاع وانتقاد رئيس الجمهورية على تجاوزه للصلاحيات المخولة له بالدستور. الى العمل بدورهما على اكتساب صلاحيات غير منصوص عليها في الدستور، مهما كان التأويل الذي سيعمل كلاهما على تقديمه.
فرئيس الحكومة وباتصاله بوزير الخارجية الروسي اراد ان يعلن انه سيعالج مكامن القصور في اداء الرئاسة في ملف الدبلوماسية، بل تعمد ان ينافسها بشكل صريح في هذا الملف الذي خصّ به الدستور رئيس الجمهورية وجعل له اليد العليا.
لكن باعتبار ان الاخير دفع لتوسيع صلاحياته في ملف الحكومة والتحوير فقد قرر المشيشي ان يواجهه بتوسيع صلاحيات رئيس الحكومة لتشمل الملف الدبلوماسي، وبذلك يظنّ انه سيمارس نوعا من الضغط الداخلي والخارجي على سعيد من منطلق انه يقترب من عزله في الفضاءين.
اما رئيس البرلمان الذي انتقد كثيرا ما اعتبره نزوع سعيد الى نظام رئاسي وبحثه عن توسيع صلاحياته على حساب رئيس الحكومة والبرلمان معا. جسد ببلاغه امس ما كان يطمح ان يبنيه لبنة لبنة. نظام مجلسي تتجاوز فيه صلاحية البرلمان ورئيسه الرقابة والمساءلة لتصبح التوجيه وتحديد السياسات. وهذا ايضا توسيع للصلاحيات من قبل الغنوشي.
اي اننا اليوم لم نعد في طور الصراع على الصلاحيات المقنع بل نحن فيه بشكل مكشوف. والثلاثي هنا مشارك فيه. وان قدم كل منهما حججا يريد من خلالها ان يسوّغ الامر على انه تنزيل لما في الدستور او النظام الداخلي للبرلمان.
هذا المربع من الصراع يبدو ان من غامروا وأقحمونا فيه يغفلون عن كونه يفاقم الازمة اكثر ويدفع بها الى اقصاها والذي سيتجسد انطلاقا من فرضية تصلب موقف الرئاسة اكثر وفشل محاولات الوساطة تقودها المنظمات بصعوبات جمة قبل هذا التطور.
ازمة يبدو انها تتجه لتمتد اكثر في الزمن. وكأنّ البلاد تمتلك هذا الترف ولا يضرها ان تهدر الوقت في مناكفات بين مؤسساتها الثلاث: رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة. وتنشغل عما هي فيه من أزمات صحية واقتصادية واجتماعية لتعلق في معركة المؤسسات التي يبدو ان بعض القائمين عليها افلتت الامور منهم فباتت تصرفاتهم تكشف عن صبيانية سياسية تجعل من فعل الحكم مجرد ردود فعل انفعالية تنطلق من دوافع ذاتية.