تتحقّق فيه المجتمعيّة La sociabilité وتنمو فيه العلاقات التبادية وتتأسس فيه التجارب وتنفّذ فيه قرارات النبذ والعزل وغيرها. والشارع بما هو فضاء للاستعراض ، والتعبير عن الفرح والفخر والاعتزاز... قد يتحوّل في فترات تاريخيّة محدّدة، إلى فضاء للاحتجاج وممارسة الضغط والتعبير عن الغضب والاستياء أو «استعراض» القوّة والتموقع السياسي أو المواجهة بين محتلف الأحزاب. ونقدّر أنّ دعوة حزب النهضة الأنصار إلى النزول إلى الشوارع مندرجة ضمن هذا الإطار، أي الردّ على الخصوم من خلال الحشود بعد أن عزّ اللقاء وتعطّلت لغة الكلام وأصبح الجلوس إلى الطاولة لعرض الأفكار والبرامج واقتراح الحلول والتفاوض أمرا عسيرا.
يبدو تحشيد الأنصار، في نظر قيادات الحزب الحل الوحيد بعد أن عزّ الخروج من الأزمة بالطرق السلمية وباستجداء العون من الدول الأجنبية. وليس استعراض «العدد» -باعتباره يشكّل العزوة- إلاّ محاولة لتحقيق المرئية لاسيما بعد أن خفت البريق وكشفت الأسرار، ولاحت أمارات التوّرط والتواطؤ والرياء وغيرها من الممارسات. غير أنّ الرغبة في عرض القوّة تخفي، في نظرنا، مخاوف أخرى، خاصّة بعد تقدّم الحزب الدستوري الحرّ من جهة، وتمكّن «الرئيس سعيّد» من كسر طوق احتكار النهضة للرأسمال الدينيّ، من جهة أخرى فضلا عن ظهور الانشقاق الداخلي والاستقالات. ولذلك فإنّ الخروج إلى الشوارع بما هو تعبير رمزيّ عن حيازة السلطة ليس إلاّ وسيلة لطمأنة القلوب القلقة أو الخائفة. فعدد الأنصار (الحقيقيين أو المزيفين أو الانتهازيين) في الشوارع ينعش الروح ولو إلى حين، ويوحي بالتمكّن ويعيد القوم إلى زمن البدايات.
ونحسب أنّ تحشيد الأنصار ينشّط الذاكرة فيسترجع القوم أحداثا مختلفة بدءا بالإعلان عن نجاح الثورة الإيرانية عندما خرجت الجموع ملتحفة بالسواد مزهوّة بالنصر ملفتة أنظار العالم من خلال تلك المشهدية الكبرى وصولا إلى أحداث «رابعة» بالقاهرة. غير أنّ السياق التاريخي السياسي يقتضي استغلال الحشود لا لنصرة «دين الله» فحسب بل للحفاظ على» ثورة الشعب» مادام الاصطفاف وراء ما أتت به الثورة من مكاسب ومغانم مفيد ومادامت شرعيّة النطق باسم الدين غير كافية إذ لابدّ أن تعضد بشرعيّة الانتماء إلى الثورة. وفق هذا الطرح نفهم لم يتمسّك قياديو النهضة بحقّهم في النزول إلى الشارع بدعوى أنّ «حرية التظاهر مكفولة لكلّ التونسيين» وقد نسي هؤلاء مواقفهم السابقة التي كانت تعتبر التظاهر فتنة وتخريبا وتعطيلا للمصالح بل إنّنا لم نسمع رأيهم في الانتهاكات التي تعرّض لها الشباب/ات منذ أسابيع، على إثر الاحتجاج في بعض الشوارع ، ولم يدافع أحد منهم عن ضرورة رفع الحصار عن الأنهج والشوارع التي حرم المواطنون من الاحتجاج فيها.
ومادام من حقّ الحزب الحاكم أن يُناصر الحكومة التي هندسها من خلال غزو الشوارع وفق تصوّر مخصوص للحكم وللديمقراطية يرى أصحابه أنّ السلطة الحقيقية تقاس بحجم الملبّين لدعوات التجييش «le pouvoir est dans la rue» فإنّه لا بدّ من الإقرار بتضاعف وظائف الشارع في الأشهر الأخيرة، إذ أنّه أضحى مسرحا للمواجهات الاجتماعيّة والسياسيّة ومحرارا تقاس به الرغبة في فض الأزمات أو الحرص على مزيد تعقيدها. ولن نبالغ إذا اعتبرنا أنّ الشارع قد يتحوّل إلى ملحق بالسلطة annexée فكلمّا احتاج النظام إلى تثبيت قاعدته لجأ إلى تحشيد الجموع وتلك إرهاصات العودة إلى النظام الدكتاتوري.
وبما أنّنا نعلم رغبة النهضة في التمايز فإنّ جغرافية العبور في الشوارع ستثبت لنا تراتبية جديدة بين القوى إذ ثمّة شوارع ذات رمزيّة لا بدّ أن تخترقها النهضة وتفكّ ارتهانها وهناك شوارع مشحونة بالدلالات ولها وقع في المتخيّل لابدّ أن تستغلّ لبناء سرديّة جديدة وهناك أيضا مسيرات تحميها القوّات الأمنية وترعاها لأنّها مع تثبت ركائز النظام...
ألا هبوّا وانزلوا إلى الشوارع
- بقلم امال قرامي
- 13:23 25/02/2021
- 1589 عدد المشاهدات
ينهض الشارع بوظائف مختلفة: فهو فضاء مادي يعكس تنظيما هندسيا وأنماطا معمارية متعددة تيسّر معيش الناس وقضاء حوائجهم، وهو فضـاء اجتمـاعيّ