الرأي العام سببا لذلك.وفي المقابل، كلّما تسرّب الحديث عن حدوث خلافات داخلية في هيكل حزبي ما، إلاّ وكان مشفوعا بحصول تصدّع وانقسامات في تنظيمات وهياكل حزبية، تثور حولها الزوابع وتتجنّد لها المنابر.
هذه الظّاهرة ليست غريبة عن المجتمع السياسي التونسي نظرا لأن مثل هذه الحالات سبق أن سُجلت في ظل الجمهورية الأولى، ولكن كان التبرير السّائد آنذاك أن وراء الإنقسامات مناورات السلطة الحاكمة ودسائسها المبثوثة في صفوف الأحزاب والمنظمات بغاية السيطرة على الحياة السياسية وإلجام الأصوات المعارضة.
فماذا يمكن القول بعد الفترة الّتي تلت 14 جانفي 2011 ، حيث تفتّقت المواهب و القرائح كي ينشأ أكثر من 200 حزب حسب بعض المصادر الحكومية، وحوالي 121 حزبا حسب المواقع الإلكترونية غير الرسمية؟
الجواب عن هذا التساؤل لم يعد يخضع للتبريرات السّابقة، ويضع المتابع أمام استنتاجات تؤكّد هشاشة المرجعيات السياسية وضعف بنائها الفكري وعدم تلاؤمها مع التطور الإجتماعي وعدم مسايرتها للمتـغـيّرات الـعـالـمـية اقتـصاديا وسياسيا، وانبنائها في النهاية على اعتيارات ذاتية.
فتونس بلد صغير ومحدود الموارد، ويفترض أن تكون الخيارات الّتي تحكمه محدودة وسهلة التشكّل وناجعة. ولكن اتفق المنظرون فيها على أن تكاثر الأحزاب في بداية إنتقال ديمقراطي ظاهرة عادية وصحية و أن وجود أجنحة في تلك الأحزاب وخروج البعض لتشكيل هياكل جديدة، ليست حالة مرضية لأنها تكرّس حق الإختلاف والتعددية الفكرية أو تعدد الرّؤى السياسية والإقتصادية والإجتماعية.
ولو أن فترة الخمس سنوات الأخيرة قصيرة جدّا للتقييم ، فإن ذلك لا يمنع من تحليل ظاهرة التشرذم، إذ أن الإنقسامات الّتي تنخر العديد من التنظيمات والتشكلات السياسية، قلّما تكون ناجمة عن تباين في الرؤى السياسية أو الإختيارت والتوجهات الإقتصادية.
فالمرجعيات تكاد تكون هي نفسها ، بخصوص الرؤى السياسية والإقتصادية، وحتى المرجعيات الدينية والقومية انحسرت ووجدت نفسها مجبرة على الذوبان في متطلبات العولمة ، فلم يبق لها غير الخطاب الّذي تستعمله لكسب الأنصار والموالين في الإستحقاقات الإنتخابية ،و الدّليل على ذلك أن حركة النهضة ذات المرجعية الدينية، لم تعد تتورّع في مسايرة النسق العام والمزايدة عليه لتُظهر انخراطها في مناهج الحداثة والتقدّم.
إن خطوط التباين ما بين اليمين و اليسار ما فتئت تتقلّص وتنفصل عن مرجعياتها النظرية الأصلية، ولم يعد لأي منها أسس اقتصادية مستقّلة، باعتبار أن أنماط التنمية في الدول النامية محدودة ومرتبطة بالضوابط الجديدة للعولمة.
لذلك يمكن القول أن خيار التشرذم أو الإنفصال عن الكتل القائمة، محكوم عليه بالفشل، وأن خيار التجميع والتكتّل هو مفتاح كسب رهان ثقة الرأي العام والدّليل على ذلك أن نجاح نداء تونس كان بفعل التجميع رغم تبان التوجهات فيه، وكذلك كان الأمر بالنسبة لحزب النهضة رغم اختلافات الأجنحة فيه، وبالنسبة للجبهة الشعبية رغم فوارق المرجعيات الفكرية والسياسية فيها.
فهؤلاء تحصّلوا على حوالي 80 بالمائة من مقاعد مجلس نواب الشعب في الانتخابات الأخيرة، في حين أن حوالي 54 حزبا لم تتحصّل على أي مقعد.
ومهما قيل عن النظام الإنتخابي، فإن التجارب المقارنة، تكشف أن توحد القوى السياسية حول مشاريع تقنع الرأي العام على أنها أقل ضررا على أوسع فئات الشعب، هي الّتي تلقى التأييد وهي المرشحة لتحقيق نجاحها في الإرتقاء إلى السلطة
إن عدد الأحزاب المرخص لها في تونس والمرشح للزيادة، لا ينطبق على التنوّع في المجتمع التونسي، وليست تونس في حاجة إليه، لأن خيارات البلاد وأنماط تنميتها لا يمكن أن تكون في حجم العدد الهائل من التنظيمات الحزبية، وهو ما يقيم الدّليل على أن سبب التعدّد ليس الحاجة الموضوعية بهدف خدمة مصلحة البلاد،و إنّما اشباع رغبات ذاتية، ومعارك تموقع خاّصة، تدعو للبحث عن سبل معالجة عوارض مرضية ،و لا تدعو إلى الإطمئنان ، كما يتواتر قول البعض، بكونها حالة صحية.....