تنتصب مجدّدا لمقاضاة بعض من تم تتبعهم و محاسبتهم إثر جانفي 2011 رغم أنه سبقت محاكمتهم ، في حين أن العدالة الدائمة الّتي توفرت لها كل الظروف و المستلزمات التشريعية طبق المعايير الدولية ،لتكون مستقلّة و سريعة وناجعة ، ما تزال تقف عاجزة عن النطق بحقيقة اغتيال شكري بلعيد: الاغتيال السياسي الأول في عهد «الثورة».
و من المفارقات أيضا أن هذا الاغتيال إستهدف أحد رواد الثورة كما استهدف بعده محمّد البراهمي و العديد من الجنود والأمنيين أبناء نفس «الثورة» ، الّذين لم يُعادُوا تونس أو شعبها ،و إنما كانوا في واجهة المدافعين عن مستقبل كانوا يعتقدون أنه مستقبل الكرامة الوطنية، التي لا زالت تبحث عن مكان لها في مجسّم شعار الجمهورية التونسية .
لذلك يسجّل التونسيون بعد ثماني سنوات من إغتيال شكري بلعيد ، أن العدالة الدائمة لم تتمكّن من الكشف عن حقيقة الجريمة البشعة التي استهدفت أحد الأصوات الحرة وأكثرها وضوحا في الوقوف ضدّ دعاة التشدّد والردة و الظلامية، وأكثرها شعبية و قربا من قلوب الناس . ولعلّ تونس ستظل تنتظر، «ثورة أخرى» سيسعى روادها مجدّدا إلى إنتهاج مسار عدالة إنتقالية أخرى مؤسسة على علوية القانون و قيم العدالة ، في سعي لكشف الحقيقة .
إن عدم اتباع مسار البلوغ إلى الحقيقة الّتي لا ينكشف فيها فقط ، المنفذ ومشاركوه بل تنكشف حقيقة الطرف المدبّر و المخطّط والداعم للمجرم أو المجرمين الّذي أهدروا دم أحد المناضلين الّذين نذروا أنفسهم من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة الوطنية.
والمؤسف أن القضاء الّذي باشر الأبحاث والتتبع ، هو الّذي حمّله التونسيون وزر البحث عن الحقيقة ، و هو الذي عُقد عليه الأمل لإعلاء صوت الحق ، ولتقديم البرهان على الكفاءة والإقتدار في فك مفاتيح و رموز خيوط الجريمة ليكسب ثقة الشعب فيه والتقدير والاحترام في المحافل الدولية ، خاصّة وأن المسؤولية السياسية قد حُمّلت للسلطة السياسية في زمن إرتكاب الجريمة ، وظلّ الرأي العام ينتظر كلمة السلطة القضائية الّتي كان ينتظر منها ألاّ تتخفّى وراء أي تبرير بعد أن تفككت قيودها.
لقد توفّرت عدّة فرص كي تأخذ التحقيقات المنحى الصحيح لكشف أجزاء هامة من الحقيقة مثل كشف الأجنحة السرية وما سمي بـ«الغرفة السوداء» وغيرها من المسائل التي يمكن أن تكون لها صلة بالاغتيال، ولكن تبعثرت الأوراق، في غمرة الزوابع الإعلامية العابرة الّتي تخمد بسرعة ويضمها النسيان ولم يسمع الرأي العام بمآل الأبحاث فيها . كل هذا لم يكن ممكنا لولا ،تدخل أطراف فاعلة ممسكة بالسلطة و حريصة على استبقائها بإستعمل كل الطرق منها اختراق مؤسسات الدولة بواسطة خلايا منظمة موازية ،تؤمن السلطة في مختلف أجنحتها. لذلك كثفت حركة النهضة الّتي كانت الماسك الفعلي للسلطة زمن الإغتيال ، نشاطها الاعلامي عند إثارة موضوع الجهاز السريّ،و وجدت نفسها مطالبة بإبعاد التهم عنها ، و أصبحت تعمل على تمييع الموضوع و تحويل النظر عن هذه القضية ، بمحاولات متكرّرة إلى تغيير وجهة التحقيق في الموضوع ،بالتشكيك في ما كشفته هيئة الدّفاع عن شكري بلعيد و محمّد البراهمي، وبالادعاء بوجود دوافع سياسية من تفجير هذه القضية ،و بوجود نوايا للتوظيف السياسي من الأطراف الّتي فشلت في الإنتخابات - كما تقول -.
ولكن لا يمكن للذين كانوا ماسكين بالسلطة الفعلية زمن الإغتيال،أن يثبتوا أنهم بذلوا كل جهدهم لتجنب ما حصل بإعتبار أنه وقع تنبيههم مسبقا بالتهديدات العلنية لـ بلعيد والّتي تكرّرت في أكثر من مناسبة ،بل أن كل القرائن تقيم الدليل على التقاعس المفرط إلى حد اعتباره ذلك تواطؤا أو مشاركة إذا لم يقع إثبات التورط الفعلي .
كما لا يمكن للقضاء الذي باشر القضية أو الّذي مازال يباشرها، الإدعاء بكشف الحقيقة كاملة بكل تفاصليها، أو على الأقل، أن يثبت أنه بذل كل ما في وسعه لتوسيع الأبحاث والتحريات وإصدار الأحكام التحضيرية اللاّزمة و متابعتها بالحرص اللاّزم للتوصل إلى إماطة اللّثام عن نقاط الظل .
ثمانية أعوام مرت على إغتيال شكري بلعيد ودمه جرح ينزف في جسم القضاء والعدالة، وسيظل الأمر كذلك طالما لم يقع كشف الحقيقة والإصداع بها كاملة. تعابير استشففتها أمس من هتافات و تعابير وتقاسيم وجوه حضرت الوقفة الرمزية لإحياء ذكرى اغتيال الشهيد في ساحة مقر سكناه الأخير الذي عبر منه إلى مثواه الأخير .فسلام على روحه ...