أحد أهم أعمدة العيش المشترك لكل شعب وهو ما دعا إليه كل فلاسفة العقد الاجتماعي وعصر الأنوار من تنازل كل الأفراد والمجموعات عن ممارسة العنف لفائدة الدولة وبصفة حصرية ، إذ أنها هي الوحيدة المحتكرة لما نسميه بالعنف الشرعي وكل عنف آخر مدان ومجرّم إلا في حالة واحدة وحيدة وهي الدفاع الشرعي عن النفس ..
العنف الجسدي الذي حصل في مجلس نواب الشعب والذي اقترفه بعض أعضاء كتلة ائتلاف الكرامة في حق نواب من التيار الديمقراطي ينتمي لهذا الصنف من العنف المجرم والمدان ،ورمزيته تتجاوز كثيرا آثاره المادية لأنه ممارسة للبلطجة داخل أهم مؤسسة دستورية ولأنه عنف جماعي قام به منتمون لطرف سياسي معيّن ، ولان هذا الطرف بالذات عودنا على تهوين العنف بل وإنكاره كلّما تعلق الأمر بالإرهاب الذي تمارسه الجماعات التكفيرية وتحويل وجهته إلى «أطراف» مجهولة الهوية أو «مخابرات» لا نعلم من يقف وراءها ..
ولكن لو أردنا التشخيص السليم ونزع فتيل هذا الغول الداهم لابد من الاعتراف بأن حجم العنف الموجود حاليا في الفضاء العام يتجاوز كثيرا ما حصل بمجلس النواب على خطورته البالغة وأن تحصين المجتمع ضد نزوة العنف قد ضعفت وأن مدافع العنف المختلفة تقصف فضاءنا العام بقوة غير مسبوقة ،كما أن منسوب العنف في مجتمعنا قد بلغ درجات تنذر بالخطر وأصبح قادرا على التحول من حالات فردية شاذة إلى طريقة جماعية للتعبير.
العنف السياسي سلسلة مترابطة : عنف لفظي فاعتداءات جسدية ثم استعمال معمم تحت مسميات شتى ..
من حسن الحظ أن الانتقال من مستوى إلى آخر ليس آليا ولا حتميا والتراجع يبقى دوما ممكنا ولكن استفحال كل مستوى والتطبيع معه يعني أننا بصدد إعداد الشروط الموضوعية للمستوى الموالي .
لقد طبّع مجلس نواب الشعب بطريقة، أو بأخرى طوعا أو كرها أو استسلاما، مع العنف اللفظي الذي يتخذ الآن أساليب شتى: التخوين المتبادل من قبل البعض والسباب والشتم والعنف المسلط على النائبات خاصة واستعمال الألفاظ السوقية والجنسوية في التعامل معهن ثم البلطجة العلنية والتهديد الواضح والذي يشارف عادة على التشابك بالأيدي ..
الأكيد أن غالبية الكتل قد نأت بنفسها بصفة جماعية عن هذا الابتذال اليومي وإن لم يمنع هذا بعض أفرادها من السقوط في فخّ العنف اللفظي وغير المقبول ولكننا أمام كتلة تمارس الاستفزاز المستمر والتوتر الدائم وهي كتلة الدستوري الحرّ وهي إن لم تمارس العنف اللفظي بمسمياته لكنها ترّفع كثيرا من درجة الاحتقان داخل البرلمان ،أما كتلة ائتلاف لكرامة فقد اتخذت من البلطجة ولغة التهديد والوعيد أسلوبا في التموقع السياسي مستعينة في معاركها ضد الدستوري الحر ببعض عناصر من كتلة النهضة الذين لا يتورعون عن السب والشتم والاستفزاز كذلك ثم أضافت كتلة ائتلاف الكرامة عنصرا هوييا لم يكن واضحا بالدرجة الكافية فيما قبل وهو الخطاب السلفي الظلامي المنغلق كعنصر فرز جديد بين «نحن» و«هم».
ولكن يخطئ من يعتقد أن خطاب العنف والكراهية منحصر في بعض كتل مجلس نواب الشعب بل نجد عناصر منه مبهمة وغامضة في مختلف تدخلات رئيس الجمهورية الذي يستعير جزءا من القاموس الحربي في بعض تدخلاته ويكثر من الوعيد والتهديد لأطراف و«مجرمين» سوف يكشف عنهم في اللحظة المناسبة، كما أن بعض التحركات الاحتجاجية لا تخلو هي بدورها من عنف لفظي وأحيانا مادي منها الحديث عن شبكات التواصل الاجتماعي وعمليات الشحن والتهجم والسب والشتم والقذف والتخوين والتكفير الذي تعمد إليه جماهير الأحزاب المتصارعة في هذا المشهد البائس..
ويكفي أن نعلم أن أحد النواب المدينين للعنف لا يتورع عن وصف خصمة سياسية بـ«العاهرة» لكي ندرك عمق الانهيار الأخلاقي الذي تعاني منه أجزاء من النخبة السياسية ولا تنسى كذلك فقدان البوصلة (الذي نتمناه وقتيا) لبعض النسويات في وقفتهن الاحتجاجية على الخطاب الظلامي للنائب محمد العفاس فاعتدين على سيارة النائب أسامة الصغير من حركة النهضة ..
هذا كله جزء من المشهد العام ويكون من قصر النظر ومن الاصطفاف المضرّ غضّ البصر عنه بتعلة توحيد القوى ضد الظلاميين.. فلو قاومنا التطرف والعنف الناجم عنه بعنف الأفراد والمجموعات نكون قد خسرنا معركة القيم قبل بدايتها .
نعيد ونقول بان الوضع خطير ولكننا – من حسن الحظ –لم نبلغ بعد نقطة اللاعودة .
غاية النظام الديمقراطي هي إدماج كل مكونات المجتمع السياسي في منظومته وألا يقصى منها إلا من أقصى نفسه إما بمناقضته للأسس الفكرية التي قام عليها النظام الديمقراطي أو باعتماده على العنف،والأفضل دوما دفع الجميع إلى المربع الديمقراطي .. والأفضل دوما هو الاعتذار عن العنف والرجوع إلى منطق العقل والإقرار بعلوية الدستور إذ دون ذلك لا مجال مطلقا لحوار داخل أسوار الديمقراطية.
ولكن الشرط الأساسي لتجاوز دوامة العنف هو إدانة كل مذنب مهما كبر أو صغر ذنبه ومحاسبته وعدم التساهل معه بحجة تحالفات سياسية أو حسابات حزبية. فإذا لم نفعل ذلك سنكون مهّدنا للمستوى الموالي ومكننا للإرهاب في بلادنا من جديد.
ولكن الخطير في كل هذا أن هذه المعارك السياسية تخاض في بلاد أنهكتها الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية بما يغذي أيضا من منسوب العنف الجماعي ويجعلنا جميعا على فوهة بركان.
اليوم كل المنظومة السياسية على المحك بدءا بأولئك الذين خرقوا مبادئ الدستور ومارسوا العنف وصولا إلى الجميع لرسم ملامح الطريق الوطني المشترك المؤسس على مبادئ الدستور واحترام المؤسسات ونبذ العنف بكل مظاهره وأشكاله ..فإما هذا أو الذهاب قدما إلى الكارثة.