ورئيسة اتّحاد قضاة محكمة المحاسبات، و كان محور الجلسات المنفردة حول وضع القضاء والقضاة و استقلال القضاء، والتسريع في وتيرة الفصل في القضايا ، ووجوب تطبيق القانون على الجميع مهما كانت مواقعهم، ووضع المحاكم وظروف عمل القضاة....
وكان الخطاب الرئاسي متضمنا لشعارات عامّة ،كان مصحوبا بصور صامتة لا تكشف أي تعابير قابلة لتفكيك رموزها بسبب الكمامات التي تُخفي تقاسيم الوجه وتُلجم الصوت في آن واحد .
في نفس اليوم الّذي إلتأمت فيه لقاءات رئيس الجمهورية (الحميس 26 نوفمبر 2020 ) نظم مجلس نواب الشعب يوما دراسيا حول «صندوق جودة العدالة»، بحضور ممثلين عن كل من جمعية ونقابة القضاة واتحاد القضاة الإداريين والماليين الى جانب ممثلين عن المجلس الأعلى للقضاء العدلي والاداري والمالي وممثلين عن عمادة المحامين وعدول الاشهاد. وتمخضت عن هذه اللّقاءات عن صياغة وثيقة عاينت ما يعاينه ويعيشه المتقاضون و مختلف المتداخلين في القضاء ، مع إبراز دواعي إحداث «صندوق جودة العدالة» و كأن العدالة في حالة عادية وليست محتاجة إلا لإضفاء الجودة على نشاطها ودورها كي تتعافي .
ومن المضحكات المبكيات ، أن المعنيين بالشأن القضائي تم التحادث معهم وسماعم منفردين وكأن الأمر يتعلّق بإجراء أبحاث وأعمال تحقيق لكشف الحقيقة ، و لم يدر بخلد رئيس الجمهورية أنه ليس بصدد التحقيق في أمور لا يعرفها و لا يعايشها مباشرة أو بواسطة المقربين إليه، و أن كل الّذين حضروا إليه يلتمسون حلولا لما يطرحون من إشكاليات متراكمة و موغلة في القدم .
لقد كان الأجدى بالسيد الرئيس أن يفكّر في سماعهم مجتمعين كي يذيب الجليد بينهم و يسدي لهم على الأقل نصيحة توحيد طلبات منظوريهم و تذكيرهم بأن السلطة القضائية يديرها المجلس الأعلى للقضاء الّذي أنشئ بطلب منهم و من مختلف الهياكل المعنية، وأنه هيكل دستوري يُعنى بالقضاء عموما ولا بالقضاة فقط . وكان من المنتظر أيضا من رئيس الجمهورية و هو رئيس كل التونسيين ، أن يستعرض معهم كيفية إدخال التنقيح التشريعي الكفيل بتفعيل دور المجلس الأعلى للقضاء كهيكل من هياكل الدولة المضطلعة بتسيير آليات إعمال صوت العدالة و رفعه إلى مرتبة تمكّنه من خدمة الصالح العام ولا لخدمة أي فئة أو أي مأرب سياسي ، وتذكيرهم أيضا بأن السلطة القضائية لا تدخل في إضراب مثلها مثل الماسكين بسلطة رئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة أو رئاسة مجلس النواب ويقنعهم بأنهم أصحاب سلطة حقيقية يجب أن يعتقدوا في علوية مهامها .
لا يمكن إستساغة تحوّل المعنيين بالشأن القضائي إلى قرطاج أو إلى باردو ،متنافرين رغم وجود مجلس أعلى للقضاء يستوعبهم قانونيا و عمليا. و لا يُستساغُ أن يمكثوا غير قادرين على عقد اجتماعات و لقاءات بينهم للتباحث حول شأن يخصهم جميعا ، لا يُمكن أن تُباشر فيه الأعمال دون التفاعل فيما بينهم ليؤدي كل طرف منهم الدور المنُوط بعهدته كي يسير القضاء بصورة عادية لخدمة الصالح العام .
لقد تفتقت القريحة على التفكير في إنشاء «صندوق جودة العدالة» وكأن أمر إصلاح القضاء يتوقف على توفير صندوق مستقل عن المجلس الأعلى للقضاء لتوفير بعض الإعتمادات لحل كل الإشكاليات الّتي يعيشها القضاة ولتوفير الظروف الملائمة لحسن سير المحاكم ومختلف المؤسسات القضائية.
هذه «القريحة» لا تعترف بالموجود و لا تسعى إلى تحقيق المنشود بتفعيل الآليات المتوفرة و رفع العراقيل المعطلة للعمل والكابحة لإرادة التغيير. ولا تعترف هذه «القريحة» أيضا ،بأن العيب ليس فقط في النواقص التشريعية ، بل أن العيب أيضا في المعنيين بالشأن القضائي ، الّذين لم يفكروا في إصلاح القضاء ، و ينساقون بسذاجة وربما عن دراية ، نحو مزيد تفكيك السلطة القضائية لأن كثرة خلق الكيانات ، لا تؤدي إلاّ إلى إضعاف القضاء وإلى تسهيل سبل إختراقه و فرض الاملاءات عليه من منافذ وبوابات مختلفة .
إن ما حصل في المدة الأخيرة داخل القضاء أكّد صحة بعض ما يقع تداوله لدى عامة الناس ،لذلك لا تجلب المستجدات الأخيرة ، عدم الرضا على وضع القضاء لدى المتقاضين اللاّهثين وراء حقوقهم والحريصين على حرياتهم فقط ، بل نجده لدى الفاعلين في هذا المجال، أي لدى أغلب القضاة والمحامين الّذين ملّوا من انتظار تغيير شأن القضاء وظروف العمل السيّئة ويتطلّعون إلى الاطمئنان على أوضاعهم ومستقبلهم. ولكن لا نرى تفاعلا لدى السلطة العامة و لدى أطراف فاعلة من أصحاب الشأن و هياكلهم، لتغيير الأوضاع السائدة.
فأمر إصلاح شأن القضاء ماديا ، لا يتوقف على إنشاء «صندوق» بل يعود في الأساس إلى الدولة المتمثلة في وزارة العدل ، الّتي تضاءل دورها في شأن القضاة . هذا يعني أن دور وزارة العدل أصبح يقتصر على التوظيف وخلاص الموظفين و القضاة والمشاركة في تسطير السياسة الجزائية وإدارتها إلى حد ما، وإدارة مصلحة السجون والاضطلاع بمهام التفقد الّتي توشك أن تكون دون فاعلية في الشأن القضائي الضيّق، ومتابعة شؤون البنية التحتية للمحاكم، والتصرف في ميزانية يُرصدُ نصفها لخلاص الأجور في حين لا تخصّص للتنمية إلاّ نسبة لا تتجاوز 5،14 % وهي نسبة ضئيلة جدّا أمام الحاجيات المتزايدة لمرفق القضاء وتهرؤ البنية التحية للمنشآت الموجودة و تخصيص نسبة لا يستهان بها لتسوغ مقرّات المحاكم ومصالح أخرى.
وإزداد دور الوزارة تضاؤله بعدم إسناد مهام تسييرها وإدارتها لشخصية عارفة بالآليات الصدئة والمتهرّئة، وذات كفاءة عالية، وجعلها بين أيادي مرتعشة وخائفة ومحاطة بأطراف مخترقة، ضعيفة أو متواطئة مع الّذين لا يريدون خيرا لسلطة قضائية قوية وفاعلة.