وتحقيق التغيير العميق في مختلف البنى والأنساق فضلا عن إحداث قطيعة مع الممارسات التي ترسّخت منذ عقود، ولكن اكتشف التونسيون/ات بعد عقد من الزمن، أنّهم كانوا ضحايا مجموعة من الأوهام. فالذين اعتقدوا أنّ الثورة ستتحقق عبر تغيير راديكالي تفطنّوا إلى أنّ هذا الفهم معّبر، في الواقع، عن تصوّر لنمط «الثورة» المنمذج تاريخيا من خلال ثورات سابقة في فرنسا وروسيا والصين ...وهو تصوّر ما قبليّ موصول إلى مرجعيّة مختلفة ،ولم يصغ محليّا وفق شروط الاجتماع التونسيّ.وانطلاقا من استقراء الواقع بات من العسير اليوم تجذير مفهوم الثورة في الوعي الجمعيّ.
لقد بدا الواقع مخالفا للتوقّعات والآمال التي حلم بها الشبّان المهمّشون والمنسيون. فـ«اللاعبون الجدد» هم في الغالب، أرباب المال والسياسة والإعلام والقادرون على اقتناص الفرص لتحقيق الامتيازات واكتساب مواقع تسمح لهم بتحقيق أحلامهم الشخصية. أمّا مسار التحوّل الديمقراطي فلم يكن خطيّا وسريعا وسهلا كما توهّم أغلبهم بل هو معقّد ووعر ويتطلّب عقدين أو أكثر من الزمن.
ومما لا شكّ فيه أفضى الاصطدام بهذا الواقع المعقّد والمغاير للظروف التي أدّت إلى انبثاق الثورات في أوروبا وأمريكا اللاتينية وغيرها من البلدان إلى الانتباه إلى أنّ ما يحدث هو وليد مناخ سياسي واجتماعيّ واقتصادي وثقافي مخصوص، وأنّ أداء الفاعلين معبّر في الحقيقة،عن التنشئة الاجتماعية والتربوية والتعليمية في مؤسسات لها طابعها الخاص، وهو متصّل بنمط التربية وبنية العلاقات وغيرها من العوامل التي تتجاوز التنظير. فلا عجب أن يحدث الصراع حول السلطة، والتنازع حول صناعة الزعامة وأن تتنافس النخب من أجل حكم البلاد وانتزاع الاعتراف في سياق تحولات لم تفرز «قائدا للثورة».
من الواضح أنّ القوى الثورية اطاحت برأس النظام السابق ولكن سرعان ما أينعت رؤوس أخرى لتعيد إنتاج الممارسات القديمة وطرق تجسّد الفعل السياسي السابق ولتتسبّب بعد ذلك في فتح الأبواب على مصراعيها أمام من كانوا يلاحظون المسار عن بعد فإذا بالقديم يعود بلا أقنعة ليتجاور مع القوى الانتهازية فتكون النتيجة مصادرة إمكانيات تحقّق أيّ مشروع جديد أو رؤية مغايرة. وكما هو منتظر أفضي وأد مشروع الإصلاح الجذري وإعادة تنظيم العلاقة بين المركز والهامش إلى حدوث القطيعة بين الحكومة والتونسيين والتشكيك في كلّ ما يصدر عن المسؤولين بل صارت الحرقة والانتحار والارتماء في حضن الجماعات الإرهابية ولوبيات الفساد والتهريب والجريمة المنظمة البدائل الوحيدة الممكنة للشبان الناقمين على جميع الفاعلين.
وبعد عجز النخب عن استنباط مشروع «إنقاذ» وسلسلة من المسارات الفاشلة التي عرّت المستور وصدمت الرأي العامّ لم يعد بالإمكان اليوم تسويق خطاب الطمأنة ولا دعوة الجموع إلى التعقل والانضباط والتضحية والصبر ولا زرع الأمل في نفوس التونسيين/ات والحال أنّ الأمل شرط لاستكمال مشروع بناء الديمقراطية. وعندما يفقد الأمل يحلّ الغضب والفوضى ويكون الاحتكام لشريعة الغاب فيسود العنف ويتفكّك النسيج وتعسر إعادة الثقة في الفاعلين والمؤسسات والمنظومة القيميّة... وتقام الجدران العازلة بين أبناء الوطن الواحد فإذا بالخطابات الشعبويّة والعشائرية والاستقطابية والنعرات الجهوية والدعوات الانفصالية تلاقي أذانا صاغية ومن ثمّة تخرج الاحتجاجات عن مسارها السلميّ لتتحوّل إلى احتجاجات «ما تذر من شيء أتت عليه». فلِم يصدمنا سلوك هذه الجماعات الغاضبة التي تصرّ على التدمير والهدم وامتلاك ما تراه حقا من حقوقها بقوّة الساعد؟
قد ظنّ اللاعبون القدامى والجدد أنّ سياسات التأجيل و«التنويم» والتسويف وذرّ الرماد على العيون واختلاق المشاكل والصراعات الجانبية تؤتي اكلها مع شعب مسالم بطبعه تعوّد على الصمت والصبر والرضا بالمكتوب وفاتهم أنّ «الهبّة» الجديدة هي هبّة الشبّان والشابات الذين اختبروا أنّ الحقوق تؤخذ «غلابا» مثلما «تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا».