عليا غير مسبوقة نظرا لتضافر كل عوامل الأزمة مع بعضها البعض الهيكلي منها والظرفي ..
السؤال الأساسي اليوم لا يكمن في الحلول الجزئية والاستثنائية لغلق ميزانية هذه السنة أو تلك التي تليها بل في السبل الفعلية لإيقاف النزيف ..الحلّ لا يكمن قطعا في مصادر الاقتراض داخلية أو خارجية ،مباشرة من البنك المركزي أو من السوق المالية ..الحلّ هو في الحدّ من الاقتراض وفي إيجاد التوازن المطلوب بين موارد الدولة ونفقاتها ..
من ايجابيات النسخة الأولى من مشروع قانون المالية التعديلي لسنة 2020 انه وضع أمام أعيننا الجزء الأهم من حقيقة انخرام موازناتنا المالية وأن البلاد تحتاج إلى حوالي 10 مليارات دينار لإتمام هذه السنة.. وأن جزءا من المديونية الفعلية المباشرة للدولة كان يخفى عن الأنظار ويضمّن داخل متخلدات المؤسسات العمومية ومستحقاتها لدى الدولة .
الوضع واضح إلى حدّ بعيد : تضاعف إجمالي المديونية بالدينار الجاري أربع مرات خلال عشرية الثورة : من 25 مليار دينار في 2010 إلى 100 مليار دينار في موفى سنة 2020 وتضاعف خدمة الدين العمومي بأكثر من ثلاث مرات خلال نفس الفترة بما يجعل سداد خدمة الدين العمومي (ما ينبغي للدولة دفعه سنويا من أصل الدين وفوائده )معضلة كبرى انطلاقا من السنة القادمة إذ ستبلغ خدمة الدين في سنة 2021 رقما قياسيا : 15.8 مليار دينار وبنسبة تطور سنوية تصل إلى %33.4..
الواضح والأكيد انه لم يعد بإمكاننا السير على نفس المنوال وان الدولة وسائر المواطنين سيدفعون فاتورة باهضة في وقت قصير لو لم نتمكن من وضع حدّ جدي لهذا النزيف الهائل..
ما الذي يمكننا فعله على المدى القريب ؟
بما أننا نعلم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة فإن الدولة ستكون مجبرة على ترشيد الإنفاق العمومي لسنوات طويلة ،نقول الترشيد حتى لا نصل إلى التقشف الفعلي أي التقليص الحقيقي لحجم التدخل العمومي وما يتبع ذلك من تجميد الأجور وجرايات التقاعد هذا إذا لم نضطر إلى التقليص منها ، والخوف من التقشف انه يعيق- كذلك - بصفة هامة إمكانيات نمو الاقتصاد بضغطه القوي جدا على الاستهلاك إلا اذا كنا قادرين مع التقشف على مضاعفة قدراتنا التصديرية خلال سنتين أو ثلاث ..
ولكن ترشيد الإنفاق ولو كان حادا (تجميد الأجور والانتداب في الوظيفة العمومية) لا يمكنه الحد بصفة خامة من حاجياتنا للاقتراض ،إذ ينبغي للبلاد أن تجد موارد إضافية سريعة خارج الدائرة اللعينة للاقتراض الاستهلاكي ،ولا نرى من حل آخر سوى الخوصصة الكلية أو الجزئية لبعض مؤسساتنا العمومية وكذلك البحث عن شريك استراتيجي كلّما كان ذلك ممكنا
وكلما تعلق الأمر بقطاع لا يمس الأمن القومي بصفة مباشرة ..
فدون سيولة إضافية ودون وقف نزيف أهم المؤسسات العمومية لن نكون قادرين على كبح جماح هذا التداين المجنون للبلاد .
ولكن كل هذا لن يكفي لمعالجة فعالة لأزمتي التداين وعجز ميزانية الدولة ، إذ ينبغي مع كل ذلك ان يحصل إصلاح سريع لمنظومتين أساسيتين وهما الدعم والتقاعد خاصة بتوجيه الدعم ، نهائيا ، إلى مستحقيه وبالترفيع منذ الآن من سن التقاعد إلى 65 سنة وإعادة حوكمة الصناديق الاجتماعية ..
ولكن يبقى العنصر الأساسي في هذه المعادلة الصعبة هو إنعاش الاقتصاد وعودة تشغيل آلتنا الإنتاجية بأقصى سرعة ممكنة والترفيع السريع في القيمة المضافة لمنتوجاتنا والتشجيع المكثف للانتصاب للحساب الخاص في كل مناطق الجمهورية حتى يتراجع الضغط على الوظيفة العمومية ونخلق شروط إنتاج الثروة في كل شبر من تراب الجمهورية ..
لقد وصلنا الى نهاية مرحلة بأكملها على المستويين الاقتصادي والاجتماعي وعاشت الدولة فوق إمكانياتها لمدة عقد كامل وتراجعت كل عناصر الإنتاجية وشروط خلق الثروة من استثمار وادخار وبحث عن أسواق جديدة ..
نحتاج اليوم الى مراجعة فورية وجذرية لهذا النمط من الإنتاج والاستهلاك والتدخل الاجتماعي للدولة .نحن مضطرون لمراجعة كل شيء وبصفة سريعة وان نقوم بالإصلاحات الضرورية التي تأخرت لأكثر من عقد (كمنظومتي التقاعد والدعم مثلا) وان نواكب التحولات الكبرى في العالم كالتحول الرقمي والطاقي وإعداد شبابنا لمهن الغد وضخ الذكاء في المنتوجات السلعية والخدماتية وألا نرتهن سيادتنا الوطنية بهذه المديونية المشطة وألا نثقل اقتصادنا بجدولة تلتهم أكثر من %40 من الثروة الوطنية ..
نحتاج إلى القيام بكل هذا بحماسة وطواعية وإيمان بمستقبل مشترك قبل أن نضطر إلى ما هو أسوا بكثير ودون أفق لغالبية مواطنينا ..
لقد دقت ساعة الإصلاح العميق ..