وللخلاف العلني مع البنك المركزي حول اللجوء المبالغ فيه إلى السوق الداخلية من اجل تمويل عجز الميزانية ..
وقد اختار رئيس الحكومة تكتيكا راوح فيه بين الهجوم والدفاع قوامه أن حكومته اختارت النزاهة والشفافية وعدم إخفاء الأرقام المزعجة (أي عكس الحكومات الفارطة) وأن الأرقام المفزعة في المشروع الأول لقانون المالية التعديلي لسنة 2020 إن هي إلا مرآة عاكسة لأزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة وأن حكومته لا تريد البناء على المراوغات أو الخداع الظاهري ، وهو يرى أن من ايجابيات هذا التمشي – وهو محق في ذلك – قيام حوار وطني حول الواقع الملموس للأوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد ..
ومن عناصر السياسة الهجومية كذلك الإحراج «اللطيف» للبنك المركزي ومعاتبته على إصدار بيان يظهر فيه خلافه مع التمشي الحكومي،في حين أنه على علم كامل بحقيقة الأوضاع والأرقام،كما نلمس كذلك نقدا غير مباشر للأحزاب المعارضة اليوم والتي كانت شريكة في حكومة الفخفاخ بقوله أن هذه الأرقام وهذه الموازنات إنما هي حقيقة سنة 2020 أي موروثة من حكومة الفخفاخ وأزمة الكوفيد 19 كما أنها تحمل على عاتقها كل مسوحات التجميل للحكومات السابقة التي أبقت على عجز الميزانية في مستوى ضعيف وحمّلت للمؤسسات العمومية وللمتعاملين مع الدولة عبء مديونيتها ..
هذا في ما يتعلق بالتكتيك الهجومي لرئيس الحكومة أما الخطة الدفاعية فقد كانت ضعيفة إلى حدّ ما إذ قامت على مبدإ «ليس بالإمكان أحسن ممّا كان» وأنه أخذا بخاطر الجميع (أي البنك المركزي والبرلمان والرأي العام ) سوف يتم التقليص في عجز الميزانية بنقطتين أي حوالي ملياري دينار، وهذا المبلغ سيخصم من حاجيات التمويل الداخلي ، وعليه فإن الدولة ستكون محتاجة الى غلق موازنتها لهذه السنة بثمانية مليار دينار عوض العشرة المعلنة والحكومة معولة على تفهم البنك المركزي لتمويل مباشر في حدود ثلاثة مليار دينار أو تزيد قليلا ،على أمل أن يضطلع القطاع البنكي بالبقية بواسطة سندات الخزينة .. ولكن يعلم الجميع أن البنوك التونسية لا تملك هذا الفائض وأنها ستقترض من البنك المركزي حتى تتمكن من شراء هذه السندات بما يفيد انه على البنك المركزي تمويل الجزء الأكبر من عجز ميزانية الدولة بصفة مباشرة واستثنائية وكذلك بصفة غير مباشرة.. و«الإصلاح» الوحيد الذي أقدمت عليه الحكومة هو تاجيل دفع ملياري دينار من مديونتها إلى السنة المقبلة فقط لا غير ..
لاشك أن الحكومة لا تملك،حلولا سحرية وهي مضطرة لاقتراض هذه المبالغ الضخمة -لو أرادت الإيفاء بالجزء الأهم من تعهداتها- ولكن يبقى السؤال الأساسي هو في مدى مطابقة هذا التصرف مع الهدف المعلن لحكومة المشيشي : إيقاف النزيف ! فنحن إزاء قانون مالية تعديلي يرافق هذا النزيف ولا نرى أي عنصر لا في هذا القانون ولا في قانون السنة القادمة مما يسمح بالقول بأننا بدأنا فعلا في وضع حد لتفاقم النزيف ولأننا أمام تصور شامل للإصلاحات العاجلة والآجلة الكفيلة بوقف جدي وفعلي لهذا النزيف.
إيقاف نزيف التداين له حلان لا ثالث لهما والأفضل أن يكون هذان الحلان متضامنين :
1 - موارد جديدة للدولة دون الترفيع في الضغط الجبائي
2 - تقليص ملموس في النفقات دون المساس بالاستثمار العمومي او بالحقوق المكتسبة للموظفين
هذا على المستوى العاجل ، أما على المستوى الآجل فهو سياسة جريئة لدفع الاقتصاد ولخلق الثروة فذلك وحده الذي يرفع من موارد الدولة بصفة طبيعية ويقلص من لجوئها إلى التداين الخارجي أو الداخلي..
حكومة هشام المشيشي لم تقدم لنا ولو تصورا أوليا لحزمة الحلول هذه ، بل وجدنا جملة في الندوة الصحفية ليوم أمس ما كنا نتمنى ان تقال بهذه الطريقة: نحن سنتحاور مع الجهات المانحة حول الإصلاحات الضرورية للبلاد !!
كنّا نتمنى أن تعرض الحكومة رؤيتها لعموم التونسيين حول الإصلاحات الضرورية لإيقاف النزيف ولخلق اقتصاد منتج للثروة ثم بعد ذلك نتفاوض مع شركائنا حول هذه التصورات التي ستكون مسنودة برأي عام قوي حولها ..
ولكن يبدو أن كل الحكومات التونسية قبل الثروة وبعدها تتفاوض وفق معيارين مختلفين: الأساسي مع الشركاء الأجانب والفرعي التسويقي مع سائر المواطنين ..والأمل مازال معقودا على أن تأتي حكومة (لم لا حكومة المشيشي) لتعيد التفاوض إلى قاعدته الأصلية : الأساسي مع التونسيين ثم تسويق نتائج هذا التفاوض وهذه القرارات الوطنية مع شركائنا ومع الجهات المانحة ..
كل ما نتمناه هو أن تأتي الأسابيع القادمة لتثبت خطأ توجساتنا ...