فيها عناصر معقدة تجعل من استمرار الوضع السابق عنها مستحيلا وتسمح أيضا بإعادة بناء شروط التجاوز ..
ولكن الأزمة عندما تستفحل بشدّة وتصبح هيكلية وتنضاف إليها أزمات هيكلية أخرى عندها تتحول إلى ما يشبه الثقب الأسود: تستهلك كل الطاقات وتستنزفها وتتحول من عرضية إلى جوهرية ومن جزئية إلى شاملة ومن مادية إلى قيمية ..
هذا هو الحال في تونس اليوم .. وأزماتنا لم تبدأ مع الثورة بل بعضها سابق عنها بعقود طويلة ولكن ما يسمى بالنخب بشكل واسع قد فاقمت هذه الأزمات ولم تتمكن -بمقادير مختلفة- من الاستفادة من مناخات الحرية لكي نضع كل المشاكل المتسببة في هذه الأزمات فوق طاولة النقاش العقلاني المستنير بالمعرفة وبتجاربنا الخاصة وتجارب سائر الشعوب والأمم ولكن عددا هاما من الذين أثثوا المشهد السياسي / الإعلامي في البلاد قد أضافوا إلى هذه الأزمات أزمة لم تكن واضحة في ما قبل وهي أزمة النخب المتصدرة للشأن العام فكريا وأخلاقيا.
لاشك لدينا في أن الكثيرين من الذين تصدّوا للشأن العام بعد الثورة إنما فعلوا ذلك بروح وطنية عالية وبرغبة جامحة في خدمة البلاد والعباد سواء أ انخرطوا في الأحزاب السياسية أو الجمعيات أو تدخلوا من موقع الاستقلالية التنظيمية ولكن كما الشأن في انضباط فوج واحد من التلاميذ يكفي أن يتجاوز عدد المشوشين نسبة معينة حتى يخرج القسم عن السيطرة وذلك أيا كانت تجربة وحنكة المربي(ة).
وهذا ما حصل بالضبط داخل النخب التونسية إذ تجاوز فيها الانتهازيون والجهلة والمؤدلجون وفاقدو الأفكار والمشاريع والقيم العتبة المصيرية بما جعل المشهد العام ينجذب الى القاع .
كلّنا نذكر كيف كان نواب في المجلس التأسيسي يباعون ويشترون على قارعة الطريق وينتقلون من «حزب» إلى « آخر» وفق قانون «العرض والطلب» وكيف لم تتجاوز هواجس بعضهم مسالة المنحة والإعاشة والإقامة واعتقدنا حينها - خطأ- أن مجلس النواب المنتخب في خريف 2014 سيرتفع بنا عن هذه الرداءة ولكن أقلية فاعلة وقوية واصلت بيع ضمائرها للوبيات جديدة وكيف كانت الاهتمامات عند آخرين صغيرة بينما اختار فريق آخر اتهام الخصوم بأقذع وأبشع النعوت في مشهدية عمقت ارتياب عموم التونسيات والتونسيين في طبقتهم السياسية ونشا عن ذلك عزوف كبير عن التصويت في تشريعيات 2019 وتصويت مكثف لمرشح من خارج المنظومة الحزبية في الرئاسية.
ولكن نتيجة انتخابات السنة الفارطة لم تقلص من هذا الانجراف نحو الأسفل ولو رمنا الإنصاف لقلنا بأن البعض قد حاول جاهدا أن يرتفع بمستوى النقاش ولكن تواصلت الصفقات وأصبح السباب والشتم والتخوين المتبادل هو القاعدة على الأقل في ما يظهر من هذا المشهد البائس ..
وما زاد في ترذيل المشهد السياسي عامة علاوة على كل ما ذكرنا من بيع الذمم المتواصل إلى حد الآن تحت قبة باردو، هذا الصراع المحموم بين أجنحة السلطة في البلاد بل وبين رأسي السلطة التنفيذية ذاتها وذلك منذ اليوم الأول لنيل حكومة المشيشي ثقة مجلس نواب الشعب كما نجد ان من بين من منح ثقته لهذه الحكومة الجديدة من يريد أن يرى رجع الصدى لمساندته وبسرعة كذلك ..
وإن نسينا فلا ننسى أن حكومة سقطت نتيجة وضعية تضارب مصالح رئيسها وامعانه في الانكار وشنه لحرب بلا قواعد على من تسبب في إسقاطه متهما الجميع بالضلوع في الفساد والخضوع للوبيات من سياسيين وإعلاميين ومنظمات مجتمع مدني وعلى رأسها هيئة مكافحة الفساد ورئيسها آنذاك الأستاذ شوقي طبيب في نبرة انتقامية ونرجسية مفرطة غابت فيها أخلاق الفرسان وحضرت صراعات الدرك الأسفل فقط ..
يبدو أن لا احد من هؤلاء المساهمين في السباق نحو الحضيض ومن مواقع القرار التنفيذية والتشريعية وكذلك الإعلامية مدرك أن ثقب السفينة تحت أقدام الخصم / العدو سيؤدي بنا جميعا إلى الغرق ..
إنها الأزمة الأخلاقية، وأزمة القيم ،على عكس كل الأزمات الأخرى ، لا تبقي ولا تذر.