إستنادا إلى توزيع دستوري سيء للسلطات وللأدوار المسندة لمختلف مؤسسات الدولة وذلك أمام قاعدة واسعة من المتفرجين. هذه الدولة الّتي منحت قيادتها إلى ثلاثة رؤساء، ما فتئت تنحدر إلى القاع بحيث يصح فيها قول المثل العام «إذا كثرو الريّاس تغرق السفينة».
فمحور الصراع الظاهر بين الغنوشي وسعيد، يدور حول سبل إقناع الشعب بأن كليهما يحمل المشروع الكفيل بتوفير الرفاهة و الرخاء و العيش الكريم في ظل نظام عادل يوفر الحرية والمساواة ، ولكن يختلف كل واحد منهما في منطلقاته وأهدافه . فسبيل الغنوشي في ذلك ، التبشير بجنة الأرض المحمودة، بتطبيق مناهج الإسلام السياسي في سعي إلى تحقيق أهداف السياسة والدين، لضمان حسن العواقب في الدنيا والآخرة طبق مراحل تفرضها إستراتيجية تحقق الهدف المأمول.
أما سبيل سعيد فيتمثل في الوعد بتحقيق إرادة الشعب بواسطة تمثيلية مباشرة ، تجعل الشعب يقرر ما يريد في تحديد من يمثله في السلطة طبق برامج و أهداف محدّدة ،تجعل ممثل الشعب مكلفا بمهام تجعل مصيره رهين تحقيقها. فإذا نجح ضمن بقاءه ،و إذا فشل تنحى ليحل محله مترشح جديد لتحقيق الأهداف المطلوبة.
الجنة المحمودة وسلطة الشعب الموعودة، للماسكين برئاسة مجلس نواب الشعب عرين السلطة التشريعية، ومؤسسة رئاسة الجمهورية قمة السلطة التنفيذية ، أساسهما شعارات ، لا مكان فيها ، لإحترام آليات الدولة و كيفية الممارسة الفعلية للسلطة والادراة، ممّا يعني في النهاية تجاوز الدولة وسلطتها ولو كان ذلك خلافا لما يقتضيه القانون ومصلحة البلاد.
فالهدف الأسمى بالنسبة لسعيد والغنوشي، ضمان قاعدة موالية تسندهما في الترويج لتصوراتهما بقطع النظر عن تبعاتها في الواقع و ما تحدثه من أزمات وأضرار، لذلك لم يتأخر الغتوشي و أتباعه عن الإنخراط في التوجهات التركية و السير في ركب المحاور، وفي نسج التحالفات الداخلية بإنتهازية مكشوفة، كما لم يتأخر سعيد عن التصريح بما لا يتلاءم مع ضمان مصالح تونس كموقفه من النزاع اللّيبي، أو في تعامله مع رئيس الحكومة الّذي اعتبر الأقدر على تشكيل الحكومة.
من هنا يلتقي سعيد و الغنوشي، حول هدف واحد ، و هو إضعاف سلطة الدولة التي يباشر مهامها دستوريا و تقنيا رئيس الحكومة و فريقه ، بإعتبار أن لهذا الأخير مباشرة السلطة التنفيذية في كل المجالات باستثناء ما يقتضي التشاور مع رئيس الجمهورية في مجالات الدفاع والخارجية والأمن.
ولكن بما أن هذه الحكومة سبق أن خضعت لغربال التكليف و نيل الثقة ، فإنها تسلمت مقاليد سلطة محكومة بشروط مسبقة وبتوازنات الكتل المتشرذمة في مجلس نواب الشعب. لذلك وجد المشيشي نفسه أمام برلمان تتحكم في أغلبيته حركة النهضة وزعيمها الغنوشي ، تساومه و تبتزه لتمرير مشاريعها ، من جهة، ومن جهة أخرى إزاء رئاسة الجمهورية الّتي كلفته والّتي تريد فرض إملاءاتها في تسمية الوزراء أو في كيفية تنفيذ البرنامج الحكومي أو تسمية المستشارين أو في غير ذلك مما يدخل في اختصاصات رئيس الحكومة المنصوص عليها في الفصل 92 من الدستور.
هذه الكوابح المزدوجة تنزل بكل ثقلها على رئيس الحكومة الّذي يجد نفسه في هذه الظروف الصعبة جدا ، يتحرّك في حيّز ضيق لا يقدر فيه على تطبيق البرنامج الّتي يعتقد أنه كفيل بإخراج تونس من أزمتها .
ولا يتوقف الامر على هذا فقط ، بل يجد رئيس الحكومة نفسه، أمام ضغوطات أخرى من الأحزاب و الكتل و المنظمات و الرأي العام، كل حسب أجنداته و وحاجياته مما يزيد في تذبذبه و عدم استقراره.
ومن المفارقات أن الشخصية الّتي ستحاسب على ألأداء لن تكون الغنوشي أو سعيد ، وإنما المشيشي و فريقة الماسك بمختلف الحقائب الوزارية ،مما يجعل الرئاستين في أريحية ، و يضع الحكومة بين نارين كما يقال .
هذا هو المشهد الذي يعيشه التونسيون اليوم في المسرح السياسي، ولا يقل قتامة عن المشهد المقابل في الساحة الاقتصادية والإجتماعية ،الّتي ترزح تحت ضغوطات معطلي الانتاج و في الآن نفسه تحت ضغوط طالبي التشغيل و مردود الثروات الطبيعية (؟ !) وكذلك مكرهات كوفيد 19.
ولو لم نكن إزاء حكومة وُصفتْ بحكومة التكنوقراط ، لصحت الدعوة لتشكيل حكومة حوار وطني بعد أن فشلت حكومات الأحزاب. ولكننا و نحن إزاء حكومة نسبت لنفسها صفة «حكومة كفاءات مستقلة» لا يسع التونسيين غير انتظار ما ستسفر عنه مجهودات هذه الحكومة. ولكن على الرئاستين خاصة ، والأحزاب والمنظمات الوطنية الإقلاع عن هرسلتها و تعطيلها والضغط عليها بشتى الطرق ، بل إطلاق أجنحتها و منحها الفرصة لاستعراض قدراتها وتقديم ما لديها من حلول، ومساعدتها على ذلك ، بروح تحفيزية وبحس وطني يرمي أساسا إلى تخليص البلاد ممّا هي فيه و إيقاف حالتي التردي والتقهقر.
في إضعاف لسلطة الدولة واستقرارها: المشيشي بين «كماشتي» الغنوشي وسعيّد
- بقلم المنجي الغريبي
- 09:44 30/09/2020
- 1318 عدد المشاهدات
تعيش تونس على وقع مشهد تراجيدي تقبع فيه سلطة رئاسة الحكومة في موقع تحاصره رئاستا الجمهورية ومجلس نواب الشعب،