قد فشلت في نيل الثقة بينما حظيت حكومتا الرئيس الأولى والثانية بثقة المجلس *.
والمعطى الظاهر الثاني أن حكومة الرئيس الأولى، حكومة الياس الفخفاخ ، كانت شبه رئاسية شبه برلمانية، فرئيسها كان مقترحا من كتلة برلمانية (تحيا تونس ) ومدعوما من كتلة أخرى (التيار الديمقراطي) ،وقد حرص إلياس الفخفاخ منذ اليوم الأول على تشكيل حزام سياسي برلماني وكان تدخل رئيس الجمهورية فيها هاما خاصة في وزراء السيادة ولكن تم ترك هامش كبير لإلياس الفخفاخ في تعيين الوزراء المستقلين كما حظيت الأحزاب المشكلة لها بحوالي %40 من تركيبتها ..
في حكومة الرئيس الثانية ، حكومة المشيشي، تم تهميش دور البرلمان وكتله إلى الأقصى، فالشخصية المقترحة لتكوين الحكومة لم ترد مطلقا في مقترحات الكتل البرلمانية ثم تم إقرار أنها ستكون «حكومة كفاءات مستقلة تماما» أي إقصاء كلي لمرشحي الأحزاب ثم كانت لرئيس الجمهورية اليد الطولى في وضع شخصيات مقربة جدا منه لا فقط في وزارات السيادة بل وفي غيرها من الوزارات أيضا ..
وكان قيس سعيد يعتقد انه يملك صاروخين لا راد لهما : خوف الأحزاب من حلّ البرلمان أولا ورضاء هشام المشيشي بالتدخل الكبير للرئاسة في تشكيلته ما دام سيدخل التاريخ كرئيس حكومة لتونس.
ولعل نشوة الانتصار الرئاسي على المنظومة الحزبية قد دفعت بقيس سعيد إلى محاصرة خصومه من الجهات الأربع وعدم الاكتراث بشخصية وإرادة الشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة في تناقض صارخ مع الحكمة الصينية القديمة التي جاءت في كتاب «فنّ الحرب» لسان تسو وهي عدم محاصرة العدو من الجهات الأربع وترك مخرج مشرف له حتى لا تدفعه إلى الشجاعة المغامرة ..
ولكن قيس سعيد وقع في فخ نرجسية الأنا فأعاد إلى أغلبية برلمانية جديدة شيئا من زمام المبادرة كانت قد فقدته بالكلية أياما قليلة قبل جلسة منح الثقة وهكذا صدقت مرة أخرى مقولة «حيلة العقل» للعظيم هيغل في معناها الشكلي على الأقل : منطق النظام البرلماني انتهى بالانتصار بفضل المغامرة غير المحسوبة للرغبات الجامحة للنظام الرئاسي..
بعبارة أخرى من أراد كل شيء دون احتساب رغبات كل شركاء العملية السياسية قد يخسر كل شيء أو على الأقل أهم شيء وهو المسك بالمبادرة السياسية بعد أن فشلت حركة النهضة في الفرصة التي أتيحت لها مباشرة بعد الانتخابات التشريعية في أكتوبر الماضي..
ولكن لا ينبغي للمنتصرين بالصدفة اليوم أن ينسوا أن «حيلة العقل» وعدم محاصرة العدو من الجهات الأربع قد تنطبق عليهم كذلك وأن الرغبة في انتصار كلي قد تتحول إلى هزيمة نكراء ..
لو أرادت بعض الكتل التي منحت فجر هذا اليوم ثقتها لحكومة المشيشي * أن تفرض شروطها على رئيس الحكومة الجديد وأساسا بإجراء تحوير وزراي سريع أو بسحب الثقة في الأسابيع القادمة من الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية فإنها قد تقضي على هذا الانتصار النسبي بتعميق الأزمة السياسية والمؤسساتية للبلاد وبإضعاف حكومة كل ملفاتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية ثقيلة وثقيلة جدا .
الخطر الداهم على تونس في الأيام والأسابيع القادمة هو حصول صراع وجود بين أهم مؤسسات الدولة : رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان وهي لن تؤدي إلا إلى مزيد من تفكك الدولة وانفلات الوضع العام أمنيا واجتماعيا ..
هل يوجد في هذه المؤسسات الأساسية للدولة ما يكفي من عقل وحكمة لإيقاف نزيف الصراع على السلطة ؟ هل سيتعامل هؤلاء الفاعلون السياسيون الأساسيون وفق المبادئ البسيطة للعقل ، أي تجنب التناحر واحترام قواعد العيش المشترك وفق قراءة نزيهة للدستور؟
لو حصل هذا –ولرئيس الحكومة القادم دور كبير في هذا – نكون قد جنبنا بلادنا كارثة إضافية ،أما لو حكّم كل طرف نزواته ورغباته وغلّب نرجسيته فسنكون أمام الطامة الكبرى التي قد تأتي على الأخضر واليابس.
* إلى حدود ساعة متأخرة من الليل لم يتم بعد المرور إلى التصويت على منح الثقة لحكومة هشام المشيشي ولكن كل المعطيات تشير إلى مرور هذه الحكومة بحوالي 60 % من مجلس نواب الشعب.