و متشبعة بمفاهيم الدولة وبالروح الوطنية ، ودون أي تخطيط، و تباشر الأوضاع و تعالجها يوما بيوم ،بلا منهجية ولا نواميس، مع إدعاء الماسكين بمختلف السلط بأنهم يتصرفون وفق قواعد إدارية و قانونية ودستورية، و لكنهم غير مدركين بأنهم يباشرون ذلك ، بقراءات خاصّة و تأويلات متعدّدة لأحكام منقوصة أو غامضة. لذلك توسعت رقعة الإفتاء وغابت الحلول وضاعت السبل في ضع صعب ومعقّد.
فالحكومة التي عهد إليها بتصريف الأعمال على رأسها الشخصية التي اعتبرها رئيس الجمهورية الأقدر بعد أن رفض البرلمان منح الثقة لمرشح حركة النهضة الحبيب الجملي، وقد أجبرت جبرت على الإستقالة بعد أن تعلّقت بها شبهة تضارب مصالح و فساد لم تسفر إلى حد الآن أعمال اللّجنة الّتي عهد لها الموضوع ظهور نتائجها، وكذلك الإستقراءات القضائية.
ولكن تشهد مرحلة تصريف الأعمال هذه، سيلا من التسميات و الإعفاءات بوتيرة تصاعدية ومكثفة، إلى درجة أن أعداد الرائد الرسمي بلغت في ما بين 15 جويلية 2020 تاريخ قبول إستقالة إلياس الفخفاخ و 28 أوت 2020 ، 19 عددا ، حيث بلغ عدد التسميات والتعيينات في مختلف الوزارات و المؤسسات العمومية أكثر من 470 تسمية و46 إعفاء ( حسب جرد سريع) كلها بموجب أوامر حكومية. كما أنه صدر في عدد أول أمس من الرائد الرسمي المؤرخ في 28 أوت 2020 أمر حكومي مؤرخ في 19 أوت 2020 يتعلق بإحداث مجلس وطني للتكوين وتطوير الكفاءات وشبكة مؤسسات وهياكل التكوين العمومية وضبط مشمولاتهما وطرق سيرهما، وأمر حكومي مؤرخ في 27 أوت 2020 يتعلق بإحداث إدارة
عامة للحوكمة والتوقي من الفساد برئاسة الحكومة وضبط مشمولاتها، وأمر حكومي آخر مؤرخ في 27 أوت 2020 يتعلّق بإرساء مسار لمراجعة الإجراءات الإدارية المستوجبة على المتعاملين مع الإدارة و تسمية مدير عام مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات.
بهذا أغلقت حكومة الفخفاخ الحلقة الّتي أرادت حسمها مع رئيس هيئة مكافحة الفساد لاعتبارات تجاوزت ردود فعل شخصية إلى الإستباق إلى تأسيس منظومة جديدة سنعرف كيفية توظيف مهامها بخصوص تنازع الإختصاص مع الهيئة الدستورية المستقلّة .
هذا يعني أن نطاق تصريف الأعمال توسّع و تمّ إستغلاله لتمرير أوامر حكومية يصعب إحصاؤها ، أغلبها ليست ذات صبغة إستعجالية ،و لغايات خفية ، ممّا يُستشفُ منه أن كل من كان ماسكا بحقيبة وزارية يسعى لترك أتباع له أو مقربين لضمان الولاء له أو تسجيل إسداء خدمة يجني ثمارها لاحقا ،مقابل تصفية حسابات أو إستبعاد من له رأي مخالف أو تصور غير مطابق ، هذا بإستثناء بعض التسميات الآلية الخاصة ببعض المسارات المهنية.
هذا السلوك ليس جديدا بل أن هذا ما دأبت عليه الحكومات المتعاقبة و منها أحزاب الترويكا الّتي تم تجاهل مراجعة تعييناتها الّتي تم التنصيص عليها في خارطة الطريق الّتي أعدّها الرباعي الراعي للحوار و عهد لحكومة جمعة بتنفيذها ولم يحصل ذلك، بل أن ما نشهده اليوم هو الانخراط الجماعي لهذا السلوك المرضي، والرجوع الدائم إلى «المخزون الإحتياطي» للترويكا في أغلب الحكومات المتعاقبة، والفخفاخ واحد منهم.
لذلك يقتضي الأمر مراجعة نطاق تصريف الأعمال و تحديد المهام كما حصل عند تحديد الصلاحيات الّتي منحت للفخفاخ في فترة الحجر الصحي ، حتي لا يكون «الوقت بدل الضائع» أوسع من الوقت الأصلي.
في مرحلة تصريف الأعمال المتسعة هذه ، أعلن السيد هشام المشيشي الشخصية الأقدر الّتي كلفها رئيس الدولة بتشكيل حكومته الثانية ، بأنه قرر بلا رجعة بأنه سيتولى تشكيل حكومة بلا أحزاب و أنه سيعتمد على كفاءات مستقلّة من الّذين تزخر بهم تونس ،و لكن عندما تم الكشف عن القائمة ، فوجئ الرأي العام السياسي ، بتشكيلة غير مُصغّرة، تتضمن وزراء لا كفاءة سياسية و لا تميّز علمي او معرفي لهم مع إستقلالية مشكوك فيها لبعضهم ، وهذا الأمر يمكن إستشفافه من مساراتهم المهنية أو السياسية، ممّا أوحى بوجود تدخلات حزبية وبأن ضغط النهضة أعطى أكله خاصة بخصوص صاحب حقيبة وزارة العدل الّذي يعرف عنه عدم اكتسابه لأي تجربة إدارية أو تميّز مهني أو معرفي، بحيث تراءى للمتابعين
والمحللّين أن النهضة ضمنت الوزارة الّتي لا تريد التفريط فيها رغم الإدعاء بأنها لم تعد فاعلة بعد تركيز المجلس الأعلى للقضاء، ولعلّ التأمل في مربع الإطارات العليا لهذه الوزارة و بالربط مع المسؤوليات الأولى في مختلف هياكل القضاء والمحاكم ، ليسود الاعتقاد بأن حلقة التحكم في السلطة القضائية اكتمل بتعيين السيد محمّد بوستة - حتى وإن قيل أنه غير مصنف- بدليل إستبعاد السيدة ثريا الجريبي من هذه الوزارة دون حصول أي مؤاخذة على أدائها في مدة قصيرة ولسبب غير معلوم، ومنحها حقيبة غير سيادية.
بهذا اتضح أن التشكيلة كانت مغايرة لما كان منتظرا ، خاصة في وزارات السيادة ، ورغم وجود كفاءات معروفة على رأس بعض الوزارات، الأمر الّذي جعل الدعم للمشيشي يتقلّص وينطفأ «وهج» إستقبال تسميته في الأيام الأولى ، و لذلك عادت الاحزاب والكتل للمطالبة بالتعديل و تقديم مقترحات أخرى لمجابهة المرحلة القادمة سياسيا و إقتصاديا.
و ما زاد الطين بلّة إعلان رئيس الحكومة المكلف بتخليه عن وزير الثقافة لتردّده في قبول الحقيبة الّتي أُسندت إليه ، ثم إعادة تثبيته في نفس اليوم من رئيس الجمهورية، في مخالفة صارخة للدستور من طرف رئيس الجمهورية، وفي وضعية غير مسبوقة. و إذا أضفنا إلى ذلك الخطأ في قائمة وزراء رئيس الحكومة المكلف بخصوص تعيين السيّد «كمال
الدوخ» وزيرا مكلفا بالتجهيز والإسكان والبنية التحتيّة بدل السيّد كمال أم الزين، وهو الخطأ الّذي تم تصحيحه في القائمة الواردة على مجلس نواب الشعب لعرضها على الجلسة العامة في 1 سبتمبر 2020 للتصويت على نيل ثقة نواب الشعب، فإن المشهد لم يعد نقيا كما تمنىالكثرون ذلك.
في الجلسة العامّة لبعد غد ، سيعرض السيد هشام المشيشي موجز برنامج عمل حكومته وسيقف على صدى التمشي الّذي وجد نفسه فيه وعلى خياراته الخاصة والمملاة بعد تكليفه من رئيس الجمهورية بتشكيل الحكومة الّتي ستواجه تحديات الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية و تداعيات الوضع الصحي .
لن تنعقد الجلسة العامة في أريحية وستكون الأجواء ساخنة،لتكشف مجدّدا تداعيات التهرئة السياسية و اكراهات الأزمة الّتي تعيشها البلاد على مختلف الأصعدة، وعلى مخرجات قوى برلمانية متنافرة غير مستقرة وغير قادرة على تشخيص إنقاذ الوطن بعد تغليب مصلحته على كل شيء.