منح الثقة في دورة استثنائية لمجلس نواب الشعب كما كان الحال منذ أربع سنوات خلت حين تم تنصيب حكومة يوسف الشاهد.
والواضح أننا نتجه إلى منح واسع للثقة مع تحفظات بعض الكتل والأحزاب ..ولا يعود هذا فقط لخشية بعضهم من انتخابات سابقة لأوانها بل وكذلك لإدراك الجميع أن فتح الباب أمام عدم استقرار جديد قديم لأشهر طويلة سيدفع ثمنه الجميع بداية باقتصاد البلاد المثخن بجائحة الكورونا علاوة على علاته وأزماته الأصلية ..
ولكن هذا الزمن السياسي سينتهي بمناوراته ومشاوراته وتوافقاته المعلنة أو الخفية ليفتح المجال ، من جديد، للزمن الواقعي ،زمن الحياة اليومية لعموم التونسيات والتونسيين سواء أكان ذلك في عالم العمل أو في الدراسة أو من انقطعت بهم السبل ..سنعود جميعا إلى حياتنا اليومية ما بين أمل خافت في تحسن ولو نسبي وتشاؤم عام باحتمال ازدياد الأوضاع سوءا .
والسؤال الأساسي بل الوحيد المطروح على الحكومة القادمة هو من أين نبدأ ؟
شعار الحكومة الحالية ، حكومة الياس الفخفاخ ، كان «الوضوح وإعادة الثقة» وشعار الحكومة القادمة هو «إيقاف النزيف» أو «حكومة الإنجاز» ولكن الأساسي في عمل هذه الحكومة القادمة هو في التغيير الذي ستحدثه في حياة الناس بصفة عامة وفي ديناميكية البلاد قبل ذلك وبعده.
يمكن أن نعلن ما نريد : إصلاحات كبرى أو إصلاحات هيكلية أو إيقاف النزيف أو إعادة الثقة ولكن الأساسي يبقى في قدره الحكومة القادمة – من عدمها –على إعادة البلاد – كل البلاد – إلى سكة العمل والإنتاج وإنهاء هدر الطاقات المحدودة للبلاد .. فدون ذلك لن تتمكن من إيقاف النزيف ومن إعادة بعث الأمل في مستقبل أفضل للجميع ..
ولكن إعادة البلاد إلى سكة العمل مسالة غير هينة بالمرة وهي تستوجب ثورة في الأفكار والممارسات وقطع مع مناطق رفاه أغلبية الفاعلين السياسيين والاجتماعيين ونشطاء المجتمع المدني ..
لقد تعودنا خلال هذه العشرية على القول بان كل احتجاج مشروع وان مطالبة الدولة بالتشغيل والتنمية حق وان نقطة الانطلاق لا يمكن أن تكون إلا من هنا بإعطاء كل جهة أو فئة حقها من ثروة يتراجع إنتاجها يوما بعد يوم .
الإشكال كل الإشكال في إقناع الجميع بالعمل قبل الاحتجاج وبالإنتاج قبل المطالبة بحسن توزيعه فانتاج الثروة والقيمة المضافة ليس عملا سحريا يتطلب استنباط منوال تنموي جديد حسب الوهم السائد اليوم في الطبقة السياسية بمختلف تشكيلاتها .. الإنتاج يستوجب تحرير طاقات كل الفاعلين الاقتصاديين مهما صغر أو علا شانهم وفي عدم شيطنة النجاح وفي القطع مع عقلية «مسمار في حيط» وهنا للإدارة دور أساسي في القرب من الفاعل الاقتصادي من أصغر حرفي إلى أكبر مستثمر وتيسير الإجراءات والحث على الانتصاب للحساب الخاص ومرافقة كل من يقدم على خلق الثروة ، أي عكس ما نحن بصدد فعله اليوم.
ينبغي أن نجرؤ على الإقدام على إصلاح جبائي جذري يشجع كل من ينتج ويعمل ويشغل ويصدر .. لابد أن يكون الاقتصاد المنظم أكثر إغراء من الاقتصاد الموازي ولكن لن يكون ذلك ممكنا بمستوى الضرائب الموظفة اليوم على النشاط الخاص ، لابد أن تحظى المؤسسات الصغرى والمتوسطة المنخرطة في الاقتصاد الفعلي بكل التحفيز وأن تسهم الدولة في خلق طبقة جديدة من المستثمرين في كل مناطق الجمهورية وان تجعل من فرص النجاح والثراء المشروع أفقا متاحا للجميع ..
على الدولة أن توفر التكوين الأصلي الجيد والتأهيل المهني الملائم وان تيسر الانتصاب للحساب الخاص لكل صاحب فكرة ومشروع مهما كانت إمكانياته المادية الحالية ، أما مطالبتها بتوفير شغل لكل طالب له فهذا انتحار جماعي وليس تنمية عادلة ..
العمل والإنتاج والإنتاجية ليست مسائل تقنية بل هي فلسفة في الحياة وعلاقة بالأشياء وتحقيق للذات وتشجيع على الطموح والاحتفاء بالتفوق والتمييز .
نحن نحتاج إلى وعي جديد وخطاب سياسي ومجتمعي يقطع مع هذه السذاجة الطيبة ، فطريق العمل شاقة لا جدال في ذلك ولكن العلا لا يبلغ بالتمنّي والسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة.
المطلوب من الحكومة القادمة أن تقول للجميع وبالوضوح الكافي أنها تنخرط بكل جدية في هذه الطريق الصعبة وأنها ستوفر لها ما استطاعت من شروط النجاح ، أما ما سوى ذلك ففشل مؤجل يزيد إلى الإحباط إحباطا .
فِطام الصغير هو البداية الفعلية لإعداده للحياة ، أما الإرضاع اللامتناهي من ثديي الدولة فمؤذن بانقطاع الحرث والنسل معا .