ولا ينجو من هذا التوصيف لا الكائنات الحية ولا الكائنات المعنوية كذلك وإن كان فساد هذه الأخيرة هو على غير صيغة الموت المعروفة عند الكائنات الحية .
الدول والأمم والشعوب من صنف هذه الكائنات المعنوية التي يعتريها هي أيضا قانون الكون والفساد ولنا في التاريخ الحاضر والماضي أمثلة عدة عن حالات التفكك والانهيار وأحيانا الزوال لدول وأمم وشعوب حتى لو لم يكن يعني هذا ضرورة الوفاة البيولوجية الكلاسيكية ..
تونس اليوم مهددة بمعاول هدم كثيرة تعمل جميعها متضافرة على تشتيت الدولة وتفتيتها واقتسامها اعتقادا من أصحاب هذه المعاول أنهم سيجنون بذلك مكاسب ومغانم ولكنهم في الحقيقة كمن يقطع الجذع القابع فوقه منعا للآخرين من الاستفادة ببعض الثمار والأوراق..
ما يحبط العزائم أحيانا في وضعية البلاد هو علمنا،جميعا،بأنها تملك عناصر البقاء والنهوض والازدهار وانه لو توحدت الجهود حول مشروع جامع وطموح وطني لتحولت بلادنا في ظرف عقدين على الأكثر إلى منطقة رخاء وازدهار لجميع مواطنيها ولكن معاول التحطيم والتهشيم – وجلّها عن حسن نية – تعوقها عن الفعل والتقدم وتقيدها بأغلال عدة لا مكان معها للحياة والنمو والتطور ..
يكفي أن ندرك جميعا أن بلادنا فقيرة إلى حدّ ما رغم كل ما أنجز فيها عبر العقود الفارطة وأن تحرير كل طاقات الخلق والإبداع فيها بالعمل الشاق وذي الأفق البعيد وبحلم جماعي نرسمه لأنفسنا حتى ننهض في سلم القيم ونرفع من قيمة كل منتوجاتنا السلعية والخدماتية ونجعل من مدرستنا من أفضل المدارس في العالم ومن بلادنا كل بلادنا كعبة الاستثمار والخلق والابتكار وأن نحوّل الحرية التي غنمناها مع الثورة إلى فرص لا متناهية لخلق الثروة على امتداد كامل تراب البلاد ..
ولكن (لأن في الأمر لكن بالبنط العريض) هذا يحتاج ثقة تامة وطوعية في قيادة البلاد،ويحتاج أيضا إلى قيادة قادرة على رسم أفق هذا الحلم والطرق المؤدية إليه ، قيادة صارمة مصممة على الفعل والإنجاز فوق كل الشبهات والترضيات والحسابات ويحتاج أيضا وخصوصا نخبا سياسية واقتصادية ونقابية وثقافية وجمعياتية لا هم لها إلا النهوض بالبلاد وحثها على العمل والاجتهاد وشد أزرها عند الشدائد وتوجيه كل القوى للفعل والبناء مع مراعاة اليقظة حتى لا ينحرف المسار وحتى لا نخطئ الطريق أثناء السير ..
هل وفرت النخب التونسية الحدّ الأدنى من هذه الشروط ؟ لا نريد أن نقسو على أنفسنا ولا أن نقول إن البلاد تخلو من الوطنيين النزهاء في كل المستويات ولكن الأداء الجماعي للنخب – لا نستثني هنا أحدا– كان هزيلا وكان الهم الأساسي لجلّ أحزب الحكم والمعارضة التموقع وتحقيق المنافع الحزبية اعتقادا منهم –لو افترضنا حسن النية – أن مصلحة البلاد في مصلحة الأحزاب، كما أننا، كمواطنات ومواطنين ، لم نصوت مطلقا منذ سنة 2011 وفق الرؤية الطموحة للبلاد والمشاريع القادرة على الإنقاذ بقدر ما صوتنا وفق أعراض العقائد الزائفة وتوهمنا أن الازدهار الذي نريده لأنفسنا وأهلنا وذوينا يمكن أن يأتي دون جهد واجتهاد وكدّ وتضحية وخروج فعلي من كل منطقة رفاه تعودنا عليها خلال هذه السنين والعقود الماضية ..
لقد تعددت وتتالت الحكومات على البلاد، وكل تدعي ، في بدايتها، الإصلاح والتقدم بالبلاد ثم تتعثر خطاها وتسقط في فخاخ «حزامها» السياسي وفي حسابات الربح والخسارة وفي البقاء كغاية في حدّ ذاتها وبقدر ما تفقد شرعيتها الأخلاقية بقدر ما تصرّ على الخطإ وتغمض عينيها عن الأساسي، أي الإصلاحات الهيكلية التي تؤتي أكلها بعد عقد أو عقدين من الزمن، وتراها تراهن على الإجراءات المشهدية ذات الربح السريع والأثر شبه المنعدم..
لا نريد أن نلقي باللائمة على أحد ولكننا نعتقد انه لو لم تستفق كل هذه النخب من غفوتها ومن حماسة انتصاراتها الزائفة وتبحث عن المشترك الوطني الممهد لحلم الإقلاع الفعلي فحينها نكون سائرين لا محالة من الكون إلى الفساد بأسرع قوة، وكل يوم يمرّ دون الاستفاقة الضرورية هو تعسير إضافي لكل إصلاح ممكن غدا.