في تحديد مسار البلاد ومصيرها في ملعب كان من المفروض أن يكون الشعب حكمُه.
ويطلع علينا كل يوم بمفاجأة جديدة وبحدث يدفع المتابع للحياة السياسية في تونس إلى مراجعة تحاليله و قراءاته لا للمستجدات الّتي يفرضها الظرف فقط ، بل أيضا ،بسبب المساس بالثوابت والقناعات.
بالأمس القريب بعد أحذ و رد ،إنتهي رئيس الجمهورية إلى إعتبار السيد إلياس الفخفاخ الشخصية الأقدر لقيادة دفة الحكومة والّتي نالت ثقة مجلس نواب الشعب الذي عادت رئاسته لزعيم النهضة راشد الغنوشي الخريجي بدعم من العدو الصديق نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس
هذا الحزب الّذي صعد فجأة و سعى خصومه و منافسوه إلى وضع كل العراقيل بحق أو بغير حق للحد من مدّه لدى الفئات الشعبية، و لكن رغم ذلك توصل إلى إقتلاع المرتبة الثانية بعد النهضة في حيازة عدد المقاعد بمجلس نواب الشعب
ولكن عند تشكيل الحكومة لم يفُز قلب تونس بموطئ قدم في الحكومة و أصبح مالكا لنسبة هامة من المقاعد النيابية دون حيازة موقع في السلطة التنفيذية ، في حين حاز الفخفاخ على الموقع الأول في الحكومة دون أن يملك مقعدا واحدا في مجلس نواب الشعب.
كل هذا تمّ طبعا على أساس خطة مستقبلية لحركة النهضة لإعادة توزيع الأوراق خاصة إذا ثبت لها أن رئيس الحكومة غير مطيع لها أو أنه لا يوفّر لها ما تسعى إليه لضمان سيطرتها على الحكومة بواسطة الحقائب الهامّة، وكذلك على الإدارة بتعيين الموالين لها في المراكز الحساسة. ويدخل ضمن خطة النهضة كذلك عزل رئيس الجمهورية قدر الإمكان إذا كان مخالفا لمواقفها خاصة في السياسة الخارجية الّتي كان الغنوشي راغبا في التحكم فيها في إطار سياسة المحاور الّتي يريد الإنخراط فيها.
شراهة الغنوشي في التوسع في ممارسة السلطة لم تكن خفية على أحد في فترة الحجر الصحي و هي فترة انصراف الناس عن الشؤون السياسية التي أراد الغنوشي استغلالها كما يجب لجر الدولة التونسية نحو مواقف متسرّعة و غير متوازنة في مجال السياسة الخارجية التونسية
ولم تكتف النهضة بمحاولة إستغلال الحجر الصحي في السياسة الخارجية، بل سعت بواسطة شبلها المدلل إئتلاف الكرامة إلى إحداث بؤر توتر في الشأن الدّاخلي، في سعي لإستدراج المنافسين إلى معارك جانبية تحاول أن تكسب منها المؤيدين وتحويل اهتمامهم من جهة ،و من جهة أخرى ، إلى العمل على تمرير مبادرات مدرجة في برنامج النهضة المستقبلي الّذي تم الكشف عنه في مناسبات انتخابية سابقة .
لا أحد كان يتوهم أن حركة النهضة الّتي أجادت ركوب «الثورة» ستغير يوما إستراتجياتها ، ولكن لا أحد أيضا كان يتصوّر أن لفيف الأحزاب الديمقراطية والمدنية سيفشل في كسب ثقة الناخبين، أو في لم شتاتها لصد أي محاولة لتغيير النمط المجتمعي في تونس.
لكن فشل تمرير مشروع لائحة رفض التدخل الأجنبي في ليبيا، عدّل في توقعات تغيير الأغلبية البرلمانية و أرسل إشارات غير مطمئنة للنهضة وحلفائها ، خاصة بعد التباين الّذي ظهر بين النهضة وحركة الشعب، الأمر الّذي حدا بالنهضة إلى التعجيل بما كانت تخطط له بخصوص توسيع الحكومة وضرب أربعة عصافير بحجر واحد : رد الهدية بمثلها لحزب قلب تونس ، و ضمان الأغلبية المريحة لمستقبل مشاريعها ،تأديب حركة الشعب، و حشر رئيس الحكومة في ركن غير مريح و من خلاله رئيس الجمهورية، وهذه الرغبة تأكدت عندما صرح الفخفاخ أن القرار في الحكومة يعود إليه دون غيره.
لكن سعي النهضة إلى تحقيق إصابة أربع أهداف بسهم واحد ، ينطوي على سوء تقدير لخصومها السياسيين خاصّة إذا أرادت أن تظهر في مظهر البريئة من كشف بعض الملفات ذات شبهة فساد على السطح، رغم ثبوت علمها بها في السابق، وهو ما كشف لعموم الناس عن استعمال النهضة بصفة مباشرة أو غير مباشرة، لسلاح المساومة بهذه الملفات التي تخفيها ولا تكشفها إلا عند الحاجة.
إن وجود أكثر من ملف في الرفوف، والدخول في منحى «تكشف – نكشف» وفضح المواقف الخفية ورغبة البعض في الانتقام، وسياسة الدس والمساومات، تكشف عن قذارة بعض الأدوار السياسية وخطورتها على المناخ السياسي العام المرشح لمزيد التردّي .
لن نعيد الحديث عن رئيس الحكومة الحالي و قراءته الخاصة لنطاق تضارب المصالح ، ولا عن الّذي سبقه،بخصوص ما ينسب إليه من تجاوزات فتلك مسائل نعتبرها - تجاوزا - موكولة لأنظار القضاء. ولا عن تصرفات رئيس مجلس النواب حامل «المظلتين» عندما تجاوز صلاحياته، و اتخذ مواقف في شأن يتعلّق بدبلوماسية البلاد وعلاقاتها الخارجية ،دون إستشارة مجلس نواب الشعب أو مكتبه. ولا عن جوقات المنابر الإعلامية بخصوص ملف أحد رجال الأعمال الّذي صُودرت أملاكه و أمواله دون أن تُصادر. ولا عمّا قيل عن القضاء من غير القضاة و ما قيل من القضاة في القضاء ، ولا عن حزب قلب تونس و مساومته و تنطعه حينا وإنصياعه في أحيان أخرى...
نقول فقط، أن المنحى الّذي نحن بصدد السير فيه يكشف لعموم الناس انحدار الاخلاق السياسية والقيم العامة الّتي نريد غرسها في الأجيال القادمة .فلا شفافية ولا نزاهة و لا صدق ولا مصداقية و لا قوة قانون و لا مساواة للجميع أمامه ، لا عدل ولا قضاء عادل و ناجز .
لذلك يمكن القول أن الساحة السياسية مفتوحة على كل التطورات و نبقى في إنتظار صوت حاسم مجمّع ، لقطع الطريق أمام المغامرات ، خاصة إذا تواصلت المزايدات أمام المأزق الذي يعيشه رئيس الحكومة والمأزق المماثل الّذي يعيشه رئيس مجلس النواب و إذا لم يحسم الامر بأخذ الأمور بسرعة بكل مجرياتها طبق ما تمليه رجاحة العقل و القانون.