خارجه حول حقيقة تموقعه الفكري والسياسي وحول ما يريد من تونس وما يريد لها..
ولعل الإشكال الأكبر للحركة الإسلامية هو التباعد الكبير بين الصورة التي تريد أن تروجها عن نفسها والصورة التي انطبعت عند أجزاء هامة من التونسيين..
تريد أن تقول حركة النهضة بأنها حزب سياسي مدني وسطي ديمقراطي اجتماعي يدافع عن هوية الشعب دون مغالاة ومنفتح على الآخر دون تبعية، جذوره إسلامية ولكنها إسلاموية معتدلة بين الافراط (السلفية العنيفة) والتفريط (العلمانية ودعاة الفصل بين الدين والدولة) فهي وسط في كل شيء وتتوسط بين كل التيارات الفكرية والسياسية..
ولكن معركة «الوسط» هذه لا تغري كل النهضويين خاصة وأن خصومهم لا ينظرون إليهم بهذه الشاكلة بل مازالوا يعتبرونهم حركة اسلاموية اخوانية محافظة وأنها تقع على يمين يمين المشهد السياسي، وأن توسطها وهمي لأنه توسط بين تيارات متطرفة فقط ليس إلا .. فأن تكون معتدلا مقارنة بالسلفية الجهادية أو بحزب التحرير فذلك لا يعني شيئا يذكر.
وهذه «الوسطية» التي تريد أن تشتغل عليها القيادات النهضوية الملتفة حول خط «الرئيس» المؤسس تعبر عنها سياسيا بالتوافق أي ببناء جسور بينها وبين التيارات «العلمانية» الأخرى ولا يهم إن كانت منخرطة في خط «الثورة» كما كان الحال زمن الترويكا الأولى وبنسبة أقل في الفترة الحالية أو كانت مع ما يعتبرون من «المنظومة القديمة» كنداء تونس أو بعده تحيا تونس واليوم مع قلب تونس..
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
والهاجس الأساسي وراء كل هذه التحالفات هو الخوف من العزلة السياسية والخروج من محورية الدور السياسي لحركة النهضة من الثورة إلى الآن، إذ حتى بعد هزيمتها وهزيمة مرشحها غير المباشر في الانتخابات العامة في خريف 2014 سرعان ما عادت النهضة إلي المحور بحكم التصدعات المتتالية للحزب الفائز آنذاك.
لقد كان طموح الحركة الإسلامية على امتداد العقود الأربعة الأولى لوجودها هو أن يُعترف بها كحزب معارض (وخاصة من 1981 إلى 2010) بل وأن تعترف بها أحزاب المعارضة التونسية، فبعد هذا البحث عن الاعتراف حتى في أبسط مستوياته أصبح الطموح النهضوي متمحورا حول الاعتراف بالحركة كـ «العمود الفقري» للمجتمع التونسي حسب عبارة حمادي الجبالي أول رئيس حكومة إسلامي في تاريخ تونس المعاصر.
والاشكال بالنسبة لحركة النهضة هو في عدم تطابق «الوسطية» كما تتصورها هي مع «الوسط» السياسي التونسي.
ففي تونس تفصل كل الأحزاب ايديولوجيا أو واقعيا بين الديني والسياسي وكلّها أيضا لا تتبنى المعيارية الدينية إلا أحيانا في الخطاب السياسي وفي انغراس مبهم في الهوية العربية الإسلامية كما أن كل هذه الأحزاب لا تطالب منخرطيها (بصفة صريحة أو ضمنية) بالالتزام بممارسات دينية تعبدية أو اجتماعية بعينها وكل هذه الاعتبارات، وغيرها، تجعل من حركة النهضة حركة على حدة، حركة لا يتطابق خطابها المدني مع ممارساتها الواقعية مما يجعلها، دوما محلّ ريبة جتى من الأحزاب التي قررت التقارب والعمل معها، وهذا ما نلاحظه على امتداد العشرية بلا استثناء.
ولعل هذه الوضعية الخاصة للحركة الإسلامية قد تعمقت بعد الانتخابات الأخيرة وخاصة بعد انتخاب مؤسسها راشد الغنوشي على رأس البرلمان التونسي إذ أصبح بذلك هدفا سهلا لكل خصوم النهضة ( بما في ذلك حلفاؤها المفترضون في حكومة الفخفاخ) وأعداؤها بل وجعل منه منصة انطلاق لحملة واسعة ضدّ الحركة الإسلامية وهذا ما يفسر اللهجة الحادة والهجومية للبيان الأخير لمجلس شورى حركة النهضة الذي يندد «بشدة باستهداف رئيس مجلس نواب الشعب ومؤسسة البرلمان، الذي يمثل الشرعية والارادة الشعبية (...)» وهنا نجد مرة أخرى هذه المفارقة الضخمة بين تصور النهضة لدور وأهمية رئيسها ومؤسسها في الحياة السياسية التونسية وبين الطريقة التي يتقبل بها الرأي العام وجلّ مكونات المشهد السياسي
لشخصية راشد الغنوشي ورغم أن مكونات الحكم الحالية وحتى بعض أحزاب المعارضة لا توافق على الشيطنة الكلية للرجل ولا كذلك على استهداف البرلمان من خلال التركيز على آداء رئيسه ولكن الواضح أن راشد الغنوشي لا يمكن له أن يكون الشخصية الوفاقية التي تمني النهضة نفسها بالترويج لها.
في نهاية الأمر كل مشاكل النهضة اليوم وغدا تعود أساسا إلى رفضها الحسم في ارثها الثقيل والتخلص نهائيا من الطوبا الإسلاموية ومن الشخصيات التي حملت هذا المشروع على امتداد كل هذه العقود الخمسة..
النهضة تريد أن تكون في الوسط وفي وسط كلّ شيء دون أن تلغي كل الأفكار والتوجهات والشخصيات التي كانت العناوين الأبرز للإسلاموية الراديكالية في تونس.
الوسطية، ككل شيء، لا يقنع الناس فيها بالخطاب بل بالأفعال المستقرة على المدى الطويل.