أو «الإسلام الزيتوني» وكيف أنه حقق منذ العصر الحفصي توليفة بين روافد ثلاثة: اللاهوت الأشعري والفقه المالكي والتصوف الطرقي.. روافد بدأت متنافرة ومتعادية أحيانا لأنها تعبّر عن مدارس فكرية ومذهبية مختلفة وكذلك لأن بعضها ينتمي إلى ما يمكن أن نسميه بالأرستقراطية الدينية (كبار مشائخ الزيتونة في وضعية الحال) والآخر إلى التدين الشعبي وكل ما يحيط به من معتقدات تتعلق بالأولياء والصالحين ومن طقوس وممارسات كانت الزوايا الصوفية الطرقية محورها ومقرها الأساسي..
ولكن مع بداية صدمة الحداثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأ الإسلام المؤسساتي في التراجع وفي خسارة ريادته الايديولوجية المطلقة والتي استمرت ما لا يقل عن أربعة قرون.
من المهم أن نلاحظ بأن الهزيمة الايديولوجية ليست فقط مسألة فكرية نظرية بل تعبّر كذلك عن حراك اجتماعي أعمق بكثير وعن نشأة نخب حديثة زاولت تعلمها بالمدارس العصرية (الصادقية أساسا بالنسبة لتونس) ثم واصلته بالجامعات الفرنسية وكذلك حركة اصلاحية من داخل المؤسسة الدينية ذاتها لم تكن فقط في خلاف فكري مع الأرستقراطية الدينية ولكنها كذلك كانت فيما يمكن أن نسميه صراع من أجل الهيمنة الأيديولوجية يحمله طموح من كانوا في الهامش الاجتماعي والديني.
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
فبعد أربعة قرون من الاستقرار الأيديولوجي يجد الاسلام الرسمي نفسه أمام تحديات قوية واراديكالية في ظرف جيل أو جيلين فقط: نخب عصرية واستعمار أوروبي وحركات اصلاحية معتدلة (الأفغاني - عبده) أو راديكالية (علي عبد الرزاق في مصر والطاهر الحدّاد في تونس) مع سقوط الخلافة العثمانية أي الرمز الموحد لعموم المسلمين.
حدثان/كتابان أساسيان ميزا الثلث الأول للقرن العشرين وبينا فقدان الاسلام الرسمي المؤسساتي لناصية الريادة الفكرية والتجديد الديني في العالم العربي الاسلامي عامة، والتونسي خاصة.
الحدث/ الكتاب الؤل هو «الإسلا وأصول الحكم» للشيخ الأزهري علي عبد الرازق الذي صدر تزامنا مع سقوط الخلافة العثمانية في سنة 1925 وتتمثل الفكرة الأساسية لكتاب علي عبد الرازق أن الإسلام لم يطور نظرية للحكم لأن مجالات اهتمامه الأساية لم تكن حكم الناس بل الاصلاح الأخلاقي والقيمي للأفراد والمجتمعات.
وهنا نجد أن من بين الردود التي لا تحصى ولا تعد على هذا الكتاب ردّ مفتي المالكية بالديار التونسية محمد الطاهر بن عاشور الذي أصدر كتيبا في 36 صفحة نشرته «المطبعة السلفية» المصرية سنة 1926 تحت عنوان «نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم» وملخصه أن علي عبد الرازق مخطئ على طول الخط وأن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة.. وهذه الأفكار ستكون الركيزة الأساسية بعيد سنوات قليلة لأولىحركات الإسلام السياسي العربية: «الاخوان المسلمون» التي أسسها حسن البنا في مصر سنة 1928.
الحدث/ الكتاب الثاني كان أكبر وأعظم أثرا في تونس، وهو كتاب الزيتوني الطاهر الحداد «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» الصادر سنة 1930 وفي هذه المرة كان الرد الأبرز من شيخ الإسلام الحنفي محمد الصالح بن مراد «الحداد على امرأة الحداد - الخطأ والكفر والبدع التي حواها كتاب امرأتنا في الشريعة والمجتمع» والعنوان لوحده برنامج في حدّ ذاته لهذا الكتاب الذي صدر في طبعته الأولى سنة 1931. ويمكن أن نقول أن الارستقراطية الدينية الزيتونية قد اعتبرت أن الحداد قد تطاول لا فقط على الدين والعرض والأمة بل وأيضا على مقام العلماء، هذا القادم من بعيد والذي يدعي اجتهادا جديدا للدين لم يأت به أحد من قبله. فالاشكال الأساسي لا يكمن فقط في قول الحداد بتاريخية آيات الأحكام وبأن مقاصد الإسلام في العدل والحرية والمساواة ينبغي أن تقدم على ظاهر نصوص الأحكام ولكن كذلك لأن «القائل» ينطلق من موقع اجتماعي ديني لا يسمح له بادعاء الاجتهاد ومناكفة أهل الشرف والعلم.
من خلال هذين الحدثين الأساسيين بتبين عمق أزمة الهيمنة الايديولوجية التي عاشها الاسلام الرسمي وعدم قدرته علي التجدد الفكري والنخبوي كذلك فأضحى مدافعا مستميتا على عالم بصدد الاندثار النهائي على نمط بعض أبطال التراجيديا اليونانية.
الإسلام المؤسساتي في مواجهته لصدمة الحداثة لم يعد ثلاثي الأبعاد: أشعري ومالكي وطرقي، بل سعى لأن يُعرف نفسه فقط ببعده الأول: المالكية وأن يعطي لهذا البعد الفقهي الفرعي معنا أصوليا جامعا..
ومن المفارقات التاريخية أن التخلص من الأشعرية (والتي لم تبق مهيمنة إلا في الفضاء الديني المغربي فقط) وإلى حدّ ما من الطرقية لم يجعل الإسلام الزيتوني المؤسساتي ينخرط بقوة في الحداثة الفكرية بل جعله يقترب تدريجيا من السلفية الوهابية التي رفضها مشائخه في بدايات القرن التسع عشر وذلك رغم قوة الدعوات الاصلاحية داخله.
ومن مفارقات الزمن أيضا أن الإسلام المؤسساتي الزيتوني أو الأزهري سيجد نفسه منذ نهايات الثلث الأول من القرن العشرين أمام خصمين جديدين ينازعانه على الهيمنة الأيديولوجية داخل الفضاء الديني وهما السلفية الوهابية رالتي أصبحت لها دولة تتبناها وتعمل علىالترويج لها، وهنا نتحدث عن الدولة السعودية الثالثة التي أسسها عبد العزيز بن سعود سنة 1932 أما الخصم الأيديولوجي الثاني فهو الإسلام السياسي الذي ظهر عربيا مع حركة «الاخوان المسلمون» سنة 1928 مع حسن البنا.
يمكن القول هنا أن الإسلام الموسساتي لمّا رفض الاصلاح المعتدل أو الراديكالي من داخله أصبح لقمة سائغة لمشروعات دينية وسياسة أكثر محافظة ولكنها تحملها دولة أو فئات اجتماعية صاعدة ممّا يجعلنا نتحدث عن هزيمة ايديولوجية.. هزيمة ستصبح نهائية في تونس بعيد الاستقلال مع اغلاق جامع الزيتونة كمؤسسة لانتاج جزء من النخب العليا والوسطى في الإدارة والقضاء والتدريس بمختلف مستوياته..
فالعالم الذيينتمي إليه «الإسلام التونسي» موسستيا عالم قد اندثر نهائيا واندثرت الطبقة الاجتماعية التي كانت تحمله وتمثله وحتى ما بقي من المؤسسات الدينية الرسمية من دار افتاء أو مجلس إسلامي أعلى أو غيرها من الموسسات فلم تتمكن من الصمود أمام الموجتين الوهابية من جهة (وخاصة منذ سبعينات القرن الماضي) والاسلاموية من جهة أخرى بل أصبح في الأغلب الأعم متذيل لهما أو اكتفى بمواصلة لعب دور فقيه السلطان ولكن بصيغة فقيرة إلى الأقصى..
وحتى التدين التونسي الذي ما فتئ يتواصل ويتجدد من جيل إلى آخر لم يعد بدوره تابعا لهذا الإسلام الرسمي والمؤسساتي..
ولكن ماذا نعرف عن هذا التدين التونسي المعيش؟
ما هي نظرته للعالم؟ وما هي القيم التي يستقي منها مبرر وجوده؟
سندعوكم في الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسلة الرمضانية إلى جولة داخل منعرجات ومتاهات وتناقضات هذا الإسلام اليومي والذي لم يجد، إلى اليوم، من يدافع عنه ومن يسعى لوضع اطار نظري لهذا الكم الهائل من المعتقدات والممارسات والتقاليد المؤثثة لمخيال جماعي حي ومتحرك منفلت دوما عن كل النظم التفهمية.
يتبع
• الحلقة الرابعة والأخيرة من سلسلة «حول الإسلام التونسي»:
مقاربات في الإسلام اليومي