1 - خطاب نيل الثقة هو الخطاب الاستراتيجي لكل حكومة لاسيما في نظام تغلب عليه الصبغة البرلمانية.
2 - غياب الالتزامات الواضحة والمرقمة والمحقبة في المذكرة التعاقدية للائتلاف الحكومي والتي عنونها الياس الفخفاخ بـ«حكومة الوضوح وإعادة الثقة» فقلنا لعلنا نجد في خطاب منح الثقة ما غاب عن المذكرة التعاقدية والتي أتينا عليها في أعدادنا الفارطة..
ولكن، من هذه الناحية، خاب انتظارنا إذ لم يكن خطاب منح الثقة سوى تكرار –أحيانا حرفيا– لمذكرة التعاقد مع إضافة مقدمة عامة وقصيرة حول مرحلة الكفاح الوطني وبناء دولة الاستقلال بما لها وما عليها وخاتمة توجه فيها الياس الفخفاخ برسائل قصيرة إلى هيئات وفئات من المجتمع التونسي .
لاشك لدينا في صدق وحسن نوايا إلياس الفخفاخ والفريق الوزاري الذي شكله وأنهم جميعا يريدون فعلا إصلاح أوضاع البلاد وأنهم يربطون بين نجاحهم الشخصي في المهام التي ستناط بعهدتهم والنجاح الجماعي لهذه الحكومة المرتقبة، وان معيارهم الوحيد للنجاح هو تقدم البلاد وتحسن مؤشراتها وظروف الحياة بالنسبة لغالبية مواطنيها.. ولكن كما يقول المثل الفرنسي «جهنم مبلطة بالنوايا الحسنة» فالنوايا الحسنة ضرورية ولكنها غير كافية بالمرة إذ أن تغيير الأوضاع يفترض بداية دقة وحسن التشخيص ثم رسم أهداف قصيرة المدى بالإمكان تحقيقها وفق أوليات ترصد لها تمويلات ويحصل بشأنها التحكيم الضروري بين مختلف مصالح الدولة..
لا نخال أن هذا التمشي العقلاني البسيط غائب عن الياس الفخفاخ وهو وزير المالية السابق وله دربة بعمليات التحكيم المالي بين سياسات عمومية كلها تستهلك أحجاما متفاوتة من موارد الدولة المحدودة..
عندما نطالع المذكرة التعاقدية وشرحها في خطاب التكليف هل يمكن أن نستشف ماهي الأولويات التي ستركز عليها حكومة الفخفاخ بعد نيلها الثقة؟
يقول لنا إلياس الفخفاخ أن هنالك ثماني أولويات عاجلة للحكومة يمكن أن نجملها كما يلي : استرجاع الأمن وتحسين القدرة الشرائية وإنعاش الاقتصاد وتقليص العجز التجاري للدفاع عن الدينار ومكافحة الفساد وتعبئة الموارد المالية لميزانية الدولة واعتماد حلّ شامل لأزمة الحوض المنجمي وإيجاد آلية لعمال الحضائر والمعلمين النواب.
لننطلق من هذه الأولويات العاجلة ولنترك بصفة مؤقتة النقطة السادسة المتعلقة بتعبئة الموارد لإتمام ميزانية هذه السنة أي اقتراض ما يفوق 11 مليار دينار ثلاثة أرباعها بالعملة الأجنبية..
لو أخذنا كل أولوية على حدة واقتصرنا فقط على السياسات العمومية الضرورية لإنجاز تحول ملحوظ فيها لرأينا بوضوح أن كل أولوية تحتاج إلى تمويلات هامة، وأحيانا ضخمة لكي يحصل التحسن النوعي المرجو.. والسؤال هو هل ضبطنا ماهي السياسات العمومية الضرورية لكل أولوية وما تستحقه من تمويلات؟ ومن أين سنأتي بهذه الأموال؟ من اقتراض إضافي؟ أم من إعادة توزيع الموارد الحالية، أي على حساب أوليات أخرى وضعت في ميزانية 2020؟ ثم هل تملك حكومة الفخفاخ العناصر الأولى للأولية السابعة «الحل الشامل والنموذجي لتجاوز أزمة الحوض المنجمي واستعادة الإنتاج المستدام للفسفاط في توافق مع حاجيات المنطقة».. ماهي ملامح هذا الحلّ؟ استثمارات عمومية ضخمة؟ خلق مؤسسات عمومية جديدة؟ منح امتيازات استثنائية للمستثمرين في قفصة؟ ثم ما العمل في هذه الوظائف الوهمية التي خلقناها في شركات البيئة والبستنة؟ وهل ستتم الاستجابة لجلّ مطالب التشغيل في الجهة؟ هل يمكن أن نتصور حلا شاملا ونموذجيا ونهائيا لا يصاحبه ضخ استثنائي وإضافي للتمويل العمومي، باشكال مختلفة، في ولاية قفصة عامة والمعتمديات الأربع للحوض المنجمي؟ بالتأكيد لا.. ثم على افتراض وجود هذا الحل هل فكرت حكومة الفخفاخ في ردة فعل بقية جهات البلاد ؟ بدءا من قابس حيث يتم تصنيع الفسفاط وولايات الجنوب الأخرى حيث توجد ثروات غازية ونفطية وولايات الشمال الغربي حيث توجد ثرواتنا المائية والفلاحية؟
هل استفاد فريق إلياس الفخفاخ من محاولة حكومة الحبيب الصيد حلّ معضلة الحوض المنجمي؟ أم أن الحكومة القادمة تعتقد أن مجرد استنادها السياسي إلى شرعية الرئيس قيس سعيد سيفتح أمامها كل العقول والقلوب كما لم يحصل ذلك من قبل؟
الحقيقة التي يجب أن نقر بها أن هنالك في ميزانية 2020 موارد مخصصة لجلّ هذه الأولويات وهذا يعني أن تحولا هاما في النتائج والمقبولية الشعبية يعني اعتمادات ضخمة إضافية تقدر بعدة مليارات من الدينارات. والسؤال مكررا : من أين سنأتي بها؟ هذا هو السؤال الأساسي بل الوحيد الجدي وما سوى ذلك حشو ونوايا حسنة والتزامات هلامية لا يستطيع فريق اتصالي في العالم التسويق لها..
ولعل أغرب ما في خطاب نيل الثقة قول إلياس الفخفاخ بأنه لم يرد ذكر الأرقام والالتزامات المرقمة لأن الناس سئموا من الوعود غير المنجزة..
فهل يعني هذا استباقا لوعود حكومية قادمة على شاكلة سابقاتها؟
يقول الفخفاخ بأنه يحتاج إلى تدقيق ثم يعود للمجلس بوعود مرقمة ومحقبة.. وهذا يعني انه يريد نيل الثقة فقط بالاعتماد على العموميات أما الوعود المرقمة والمحقبة فهي لن تخضع ضرورة إلى تصويت النواب..
ثم عن أي تدقيق يتحدث إلياس الفخفاخ؟ هل يقصد به مراقبة الطريقة التي تم بها إنفاق المال العمومي؟ أم المؤشرات الكبرى للاقتصاد الوطني؟
الجانب الأول غير مطلوب في هذه المناسبة وبإمكانه بل ومن واجبه بعد نيل الثقة التدقيق في كل حسابات الدولة وفي كل مجالات إنفاقها العمومي ولكن المطلوب في خطاب نيل الثقة هو المؤشرات الكبرى للبلاد وهي موجودة في قوانين المالية العادية والتكميلية وفي مواقع البنك المركزي ووزارة المالية والمعهد الوطني للإحصاء وغيرها من المواقع الأساسية لاقتصاد البلاد.. فهل هذا يستوجب انكبابا خاصا والحال أن كل هذه المعطيات متوفرة للعموم فما بالك للشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة؟ !
لا نخال إلياس الفخفاخ غير ملم بلوحة القيادة للاقتصاد التونسي ولكن عرض أهمها أمام مجلس نواب الشعب سيسقط تقريبا كل أولياته العاجلة، لان الوضع الحالي للمالية العمومية يفيد أمرا واحدا: لا تملك حكومة الفخفاخ أي هامش تحرك في سنة 2020 ولا حتى في سنة 2021 وأن الإصلاحات الوحيدة الضرورية والمفيدة في هذه السنة وفي التي تليها هي التخفيض من الإنفاق العمومي لا الزيادة فيه أو لنقل بأن التخفيض ينبغي أن يكون أكثر من الزيادة هذا لو رمنا معالجة جدية لاختلال توازنات المالية العمومية وبالتالي القدرة –النسبية- على تعبئة الموارد.. فلو ذهب إلياس الفخفاخ بعد أسابيع في اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك العالمي بميزانية تكميلية او بخطة مالية يزيد فيها الإنفاق العمومي لأغلقت أمامه كل أبواب التفاوض ومن ثمة تعبئة الموارد.. فالأولوية السادسة (تعبئة الموارد).. تقتضي حتما خطة تقشفية للإنفاق العمومي لم نر أيّ ملمح لها لا في المذكرة التعاقدية ولا في خطاب نيل الثقة ويمكننا أن نجزم من اليوم أن ما سيقدمه الفخفاخ في اجتماعات الربيع لا علاقة له البتة بما التزم به أمام مجلس نواب الشعب .
بطبيعة الحال لابد من معالجة حالات اجتماعية صعبة والتركيز على الفئات الأكثر هشاشة في بلادنا ولكن في المقابل يجب على الحكومة القادمة أن تبرهن لأهم ممولي اقتصاد البلاد أنها جادة في إيقاف نزيف الإنفاق العمومي الذي ميز هذه العشرية وان التحسين الجوهري لظروف عيش المواطنات والمواطنين لابد أن يكون نتيجة تحسن أداء الآلة الإنتاجية كمّا وكيفا .
هل يعني هذا انه لا مجال لنا البتة لتحرك إيجابي ؟
لا وألف لا، ولكن هذا يحتاج إلى صنفين من الحلول :
- الحلول المبدعة وغير المستهلكة للموارد العمومية وهذا لا وجود له البتة في المذكرة التعاقدية ونأمل أن يتم تلافي هذا النقص..
- الحلول الاضطرارية الوقتية والمتمثلة في إيجاد موارد إضافية للدولة خارج مواردها العادية من جباية وعائدات وهبات واقتراض، أي بوضوح التفريط في بعض ممتلكات الدولة، كليا أو جزئيا، من عقارات ومساهمات ومؤسسات اقتصادية في القطاع التنافسي، وهذا يستوجب شجاعة سياسية لأنه مكلف شعبيا وسياسيا.
لقد اختار إلياس الفخفاخ منذ البداية شعار «حكومة الوضوح وإعادة الثقة» ولكنه قصر إلى حدّ الآن مفعول هذا الشعار على «الحزام السياسي» لحكومته لا على مصارحة التونسيين بحقيقة أوضاع بلادهم وبالجهد الذي ينبغي بذله من الجميع لوضع حد للنزيف وللنهوض باقتصاد البلاد كمقدمة للرفع من مردوديته في انتظار الارتفاع في سلم القيم اي الانتقال من المنوال الاقتصادي الموضوع منذ سبعينات القرن الماضي إلى اقتصاد القيمة المضافة العالية القادر لوحده على إيجاد الرفاهية العامة التي ينشدها الجميع..
إن قول الكلام الذي يعجب الناس والنقابات والأحزاب والاضطرار إلى فعل عكسه بحكم إكراهات تسيير الدولة يضرب مجددا ما تبقى من منسوب الثقة في البلاد بين الحاكم والمحكوم..
نعتقد انه مازال بإمكان إلياس الفخفاخ بعد نيله المفترض لثقة النواب اليوم أن يصلح ما فات وان يعود إلى مجلس نواب الشعب بالمعطيات المحينة لاقتصاد البلاد ويتحدث بوضوح للتونسيين عن سياسته لإصلاح الأوضاع المالية أولا ولكيفية تنشيط لاقتصاد وإنقاذه من الانكماش الفعلي –لا التقني– الذي يتهدده اليوم ثانيا.
إنقاذ اقتصاد البلاد هو مفتاح كل الانتصارات..
وعلى إلياس الفخفاخ أن يختار إما أن يكون رقما إضافيا في القائمة الطويلة لرؤساء حكومات ما بعد الثورة أو الرقم الأول في بداية الإصلاح الجدي ..
الكرة الآن في ملعب صاحب القصبة الجديد ..