بين رئيس الجمهورية والشخصية المكلفة بتشكيل الحكومة: حتى لا تنهزم العقلانية في بلادنا

كنا في هذه الجريدة، ولا نزال ،نأمل أن يتحول صعود قيس سعيد إلى كرسي قرطاج إلى فرصة تاريخية للتونسيات وللتونسيين

في بداية عملية إصلاح جذرية للبلاد وإنقاذها وإنقاذ اقتصادها من الأزمات التي تتخبط فيها وإعطاء فرصة فعلية وجدية لشبابنا لإعادة الأمل في عقولهم وان نؤسس معا لحلم وطني قادر على التحقق.

ولكن – وللأسف الشديد- جلّ الرسائل التي وصلتنا من قرطاج على امتداد هذه الأيام المائة من حكم الرئيس لم تكن مطمئنة ولا تنبئ بأن أعلى هرم الدولة مدرك تمام الإدراك للتحديات الفعلية التي تعيشها البلاد..

ولقد جاء أول حوار لرئيس الجمهورية يوم أول أمس على القناة الوطنية ليؤكد بصفة كبيرة هذه التوجسات والمخاوف.

الإشكال مع رئيس الدولة لا يتمثل في أسلوبه الخطابي ولا في إيمانه المبهم بما بعد الديمقراطية التمثيلية التقليدية ولا أيضا في سعيه لتأويل مطاط لصلاحياته الدستورية ، الإشكال الأساسي يتمثل في ضعف إدراك مشاكل تونس الفعلية

اليوم، وفي ما قد ينجر عن ذلك من إهدار لهذه الفرصة التاريخية جراء هذه الشعبوية الجديدة تحت هذا الشعار الجذاب «الشعب يريد وهو يعرف ماذا يريد» .

هنالك إجماع في البلاد بأن مشاكلنا اقتصادية واجتماعية بالاساس ،ولقد استعملنا الواو هنا للتمييز بين هذين المجالين وللتدليل أيضا على انه لا حلول للازمة الاقتصادية ولا أيضا للأزمة الاجتماعية ما لم نتوفق إلى تصور يجمع بين هذين البعدين معا ويتجاوزهما في نفس الوقت ،وان بداية الحل تكمن في التوظيف العقلاني لكل الموارد المالية والبشرية والطبيعية حتى ينتعش الاقتصاد تدريجيا ونخرج من دائرة النمو الهش إلى نمو صلب ومستدام كشرط أساسي لمعالجة عقلانية دائمة لكل أزماتنا الاجتماعية من فقر وتهميش وتعطل للمصعد الاجتماعي وتفاوت جهوي وغياب تكافؤ الفرص الفعلي بين كل بناتنا وأبنائنا والقطع مع كل أشكال الاقتصاد الريعي أو الطفيلي والانكباب جميعا على الإنتاج وتحسين جودة كل منتوجاتنا السلعية والخدماتية ووضع العمل كقيمة القيم في هذا المجهود الوطني المطلوب..

وكان بإمكان رئيس الدولة – ومازال ذلك بإمكانه- أن يخرج من خطاب الحملة الانتخابية ومن الوهم القاتل بأن أزمة البلاد هي في نظامها السياسي ليعطي لكل هذا الجهد الدفع المعنوي الضروري وأن يضع شبه الإجماع الوطني الذي حصل عليه يوم 13 أكتوبر في خدمة هذه العقلانية الطموحة.

لكن الواقع للأسف هو غير هذا ولقد رأى التونسيون رئيس جمهورية في شبه عزلة عن العالم الحقيقي يقاوم أشباحا متآمرة لا احد يعرف هويتها ويبحث عن مشاريع لا نعلم من سيمولها وكيف ستحقق الجدوى الاقتصادية من ورائها ،والجدوى الاقتصادية هي الركيزة الأولى لشفافية كل تمويل ولابتعاده عن تبييض الأموال أو عن الوعود الزائفة والغش المبطن..فما أكثر المشاريع الفلكلورية التي تقدمت لبلادنا بعد الثورة وقبلها واتضح لكل ذي نظر أن الهدف الأساسي لأصحابها هو الحصول على أراض شاسعة بالدينار الرمزي مقابل إيهام المسؤولين بانجاز مشاريع فرعونية.

لننظر فقط إلى «سماء دبي» و«المدينة الرياضية» لنتعظ من أخطائنا الماضية .

الإشكال مع قيس سعيد ومع جزء من النخبة المحيطة به داخل القصر وخاصة خارجه هو هذه النظرة السحرية للأشياء والتوهم بأن تغيير النظام السياسي والانطلاق من القاعدة إلى القمة في هيكلة السلطة هو الذي سيجلب الاستثمارات ويخلق القيمة المضافة ومواطن الشغل ويجعلنا نرتقي تدريجيا في سلم القيم حتى نتمكن من تغيير فعلي ،لا وهمي،لمنوالنا التنموي .

فتغيير المنوال التنموي لا يعني توزيع خيرات لم تنتجها البلاد لان ذلك يدفع فقط إلى التداين مهما كانت النوايا ولكن يعني عمليا الانتقال في تصديرنا لزيت الزيتون من %17 من التعليب الى %80 او%90 مع ما يعنيه ذلك من ضخ الذكاء في كل حلقات الإنتاج والترويج والدعاية والتسويق النهائي ومع ما يفترض ذلك من ثورة الذكاء البشري في منظومتنا التربوية والتكوينية.فتغيير المنوال التنموي لا علاقة له بأوهام العقائديين بل هو ارتقاء تدريجي في سلم القيم الإنتاجية والانتقال من القيمة المضافة البسيطة أو العادية إلى أعلى مستوياتها الممكنة.

هذه هي التحديات الأساسية في كل القطاعات وهذا يحتاج قدرة على التفاوض مع كل الفاعلين الاجتماعيين داخليا – بما في ذلك الشباب الغاضب والمعتصم أحيانا- ومع الجهات المانحة الأجنبية ومع كل شركائنا الاقتصاديين،وهذا يستوجب حكومة على درجة كبيرة من الكفاءة ومن الوعي بكل هذه الرهانات .

ولقد استبشرنا خيرا بتكليف السيد الياس فخفاخ بتشكيل الحكومة القادمة رغم انه لم يكن خيار أهم الكتل البرلمانية، ولكن الياس فخفاخ فقد فاجأنا قبل هذا التكليف بأشهر خلال ترشحه للانتخابات الرئاسية بخطاب متناغم إلى حد كبير مع هذه التحديات التي تعيشها البلاد ،ولكن بعد تكليفه غلبت عليه الصبغة السياسوية وقدم العرض على الجوهر وتاه في منزلقات الحزام السياسي دون التركيز على برنامج عملي وجدي وطموح لإنقاذ البلاد وللتجميع حوله بدلا من البحث في ثنايا العقول والنفوس عن «نفس» ثوري لا نراه يجمع في كل الأحوال حول طاولة واحدة ائتلاف الكرامة من جهة ونداء تونس ومشروع تونس والبديل وآفاق وتحيا تونس (وهي أحزاب وضعها الياس فخفاخ في حزامه السياسي) من جهة أخرى حتى أجهدته هذه التقلبات فقدم وثيقة لهذا الائتلاف لا تميز بين الأفكار العامة الضرورية والعموميات التي تضيع الوقت وتؤجل الحسم الجدي في الملفات الحارقة المطروحة على كل حكومة ممكنة غدا في تونس .

هنالك مثل عالمي شائع مفاده انه من العبث محاولة اختراع العجلة من جديد أو اكتشاف أن النار تحرق.. فأزمة بلادنا مالية واقتصادية واجتماعية وانضافت إليها في بعد أفقي أزمة أخلاقية،والحلول لن تكون سحرية بل هي فقط بالعمل الدؤوب والمتواصل والمضني وملاحقة الزمن وانجاز التحولات التي تأخرت في البلاد.
ان غياب العقلانية بما هي ترتيب للأولويات وعمل على مواطن القوة ومعالجة لمواطن الخلل وتوجيه الجهد نحو أهداف مرحلية قابلة للانجاز واجتناب خوض معارك دونكيشوتية خاسرة بالضرورة.. إن غياب هذه العقلانية سيؤجج الصراعات الهامشية ويعمق من أزماتنا التي أضحت كلها هيكلية ويضعف ثقة المواطنين في قدرة الدولة والنخب بصفة عامة في إصلاح جدي لأوضاع البلاد وهو ما ينبئ بأيام سيئة..

ما ضرّ لو تواضعنا وتواضع الجميع على تشخيص جدّي لمشاكل البلاد وعلى العمل، والعمل فقط،على حلّها ؟؟

إنها أوهام العقائد والإيديولوجيات التي تذهب بعقول الناس أحيانا ولكنها أينما مرّت مرّ معها الخراب ..ما ضرّ لو عمدنا إلى العقلانية لحل مشاكل بلادنا ؟

الإشكال الرئيسي ،فيما يبدو ،أن العقلانية ستغلق دكاكين – أو أشباه دكاكين – سياسية كثيرة ..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115