حملت في طياتها حقائق جديدة وجب الوقوف عندها مليا.. نحن لا نتحدث هنا عن المناوشات بين أنصار «الشيخ» وخصومه ولكن عمّا أفصح عنه رئيس النهضة بلسانه وعما جاء في ردّه على التساؤلات والاتهامات التي طالته والتي كشفت للعموم وجها كان مخفيا إلى حدّ ما وهو هذا العشق لتركيا ولرئيسها،عشق يصل إلى حدّ الوله،بل هو تيه ما وراءه تيه..
نعلم الآن بداية أن راشد الغنوشي هو الذي طلب مقابلة اردوغان، ولكن لماذا ؟ وماذا أراد أن يقول له؟ ولم تطلب شخصية سياسية لا صفة ديبلوماسية لها مقابلة رئيس دولة أجنبية؟ حول كل هذه الأسئلة علينا فقط أن نكتفي بالبلاغ اليتيم لحركة النهضة : اللقاء كان بصفة الطالب الحزبية للتهنئة بالسيارة التركية الجديدة وللحدّ من عجزنا التجاري (هكذا !) وأيضا، وهذا هو بيت القصيد، للتباحث حول الأوضاع الإقليمية، أي أن راشد لغنوشي يطلب مقابلة اردوغان ليتحادثا حول الأزمة الليبية.. لماذا؟ وبأي تكليف؟ ينبغي علينا هنا الاكتفاء بحسن النوايا فقط لا غير..
ثم إن تركيا، أو بالأحرى القيادة التركية قد رحبت بالثورات العربية لأنها تقاسمها نفس القيم وتؤمن بالحرية ولأنها بلد الانتخابات الحقيقية لا المزيفة.. وعليه فطبيعي أن تكون لتونس وللنهضة ولراشد الغنوشي هذه العلاقة المتميزة مع تركيا ومع قيادتها السياسية كل هذه العلاقات الحميمية، ومن يرى عكس ذلك فهو منغمس في الايديولوجيا وفاقد لكل نظرة واقعية.
ولكن بهذه المقاييس الم يكن الأجدر برئيس حركة النهضة أن يتعلق فكريا وروحيا بفرنسا وألمانيا وأمريكا واسبانيا وايطاليا فالديمقراطية في كل هذه الدول وغيرها أعمق وامتن وأكمل ممّا هي عليه في تركيا اردوغان.. هذا دون الحديث عن عشرات آلاف الاعتقالات ولجم الإعلام الذي ميز هذه السنين الأخيرة لاردوغان بتعلة محاربة أنصار الانقلاب..
كأنّنا براشد الغنوشي يقول بأن الديمقراطيات الغربية الكبيرة تمارس جلها سياسات هيمنية خارج حدودها وهي أيضا وريثة لإمبراطوريات استعمارية استعبدت شعوبنا ونهبت خيراتنا،على عكس تركيا الخالية من الماضي الاستعماري والبعيدة كل البعد عن النوايا الهيمنية بالإضافة الى كوننا أمام ديمقراطية كبيرة في بلاد المسلمين وهذا لوحده مدعاة للفخر وللاعتزاز..
ولتأكيد هذه المعاني، التي لم يفصح عنها صراحة راشد الغنوشي، يذكرنا رئيس المجلس بالدور التاريخي الذي لعبته الخلافة العثمانية في تحرير تونس من الاحتلال الاسباني في القرن السادس عشر بواسطة سنان باشا وكدليل على حبّ كل التونسيين (غير المؤدلجين طبعا) له يذكرنا زعيم النهضة بوجود اسم في العاصمة يحمل اسمه.
إذن في النظرة التاريخية غير المؤدلجة الخلافة العثمانية هي التي كانت تحمي «بيضة الإسلام» من الأطماع الغربية المسيحية كل ذلك بدافع الوازع الديني ودون أية نوايا هيمنية ودون أية علاقات غير متكافئة بين الباب العالي وكل الايالات العثمانية التابعة له..
هذه هي إذن النظرة المتحررة من الايديولوجيا التي يدعونا إليها راشد الغنوشي في التعامل مع تركيا باعتبارها صراحة عنده اليوم استمرارا لهذه الخلافة العثمانية التي برّت بالبلاد والعباد وهكذا يصبح كل خصم للقيادة التركية هو خصم لهذا التاريخ المجيد وخصم للخلافة الإسلامية التي مثلها العثمانيون طيلة خمسة قرون أفضل تمثيل..
نحن كما ترون بعيدون كل البعد عن «الايديولوجيا» التي تحرر منها زعيم النهضة، وهو لا يتوقف عند هذا الحدّ في الوله بالقيادة التركية وبما تمثله اليوم بل يتجاوز كل الحدود والخطوط ليزعم بأن هذه العلاقات المثالية بين تونس وتركيا قد استمرت حتى بعد سقوط الخلافة العثمانية والدليل هو العلاقة الممتازة بين بورقيبة وأتاتورك!!
إشترك في النسخة الرقمية للمغرب
لسنا ندري عن أية علاقة يتحدث راشد الغنوشي فأتاتورك قد توفي سنة 1938 والحبيب بورقيبة لم يصبح بعد ذلك الزعيم الوطني الذي تجاوز صيته الأفاق.. لعله أراد أن يتحدث عما يفترضه من روابط عقائدية وفكرية بين أتاتورك اللائيكي الذي ألغى الخلافة الإسلامية والأحرف العربية والأحكام والأعراف الدينية وبين بورقيبة «العلماني» كما كان يردّد ذلك راشد الغنوشي في شبابه وكهولته وأيضا في شيخوخته ولكن بحذر أكبر وبعبارات غير عدائية..
لعل الغنوشي لا يعلم أن الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة كاد أن يوصلنا إلى أزمة ديبلوماسية مع تركيا حينما تحدث عن أتاتورك في إحدى خطبه في السبعينات واتهمه بعدم فهم طبيعة التغيير الفكري الضروري في العالم الإسلامي.. ولكن الحقيقة التاريخية الفعلية لا تهم فالأتراك أصدقاؤنا وحماتنا وداعمونا دوما من سنان باشا إلى أردوغان ونضيف إليهم أتاتورك للمؤدلجين من العلمانيين حتى لا نقصي أحدا من التونسيين من هذا الوله التركي.
وبناء على كل ما سبق تصبح علاقة الغنوشي باردوغان نوعا من الوفاء لكامل هذا الإرث التاريخي منذ سنان باشا في إطار «وحدة» إسلامية في شكل جديد.. وحدة تتشكل من كل «الديمقراطيين» على شاكلة راشد الغنوشي أو فجر ليبيا أو دولة قطر بقيادة اردوغانية أخوية دون أطماع هيمنية أو توسعية والدليل على ذلك واضح فتدخل تركيا في سوريا كان ضد البراميل المتفجرة لنظام بشار الأسد فقط لا غير وتيسيره وصول عشرات الآلاف من الإرهابيين الى سوريا لم يكن إلا في إطار التضامن الإسلامي وكذلك نيته التدخل العسكري في ليبيا فهو لا يريد منها الا السلام ودحر الانقلابيين حتى لا يحتلوا طرابلس وإقامة توازن القوى كتمهيد لسلم قادمة..
هذه هي تركيا اردوغان وفق النظارات غير المؤدلجة لراشد الغنوشي، فهي قوة الديمقراطية والخير والسلام الجديدة لا يعاديها إلا انقلابي متآمر على الثورة كخليفة حفتر أو عدو لشعبه كبشار الأسد وما سوى ذاك تفاصيل لا يعبأ بها كثيرا رئيس حركة النهضة..
إننا لسنا أمام تبعية إيديولوجية وسياسية فحسب، إننا أمام مروية حبّ، بل قصة تيه وعشق وغرام..
والسؤال أين تونس في كل هذا؟ أين الوطن ومصالحه؟ إننا فقط أمام اصطفاف عقائدي وسياسي ونفسي أيضا يريد استعادة ما حطمه الأتراك أنفسهم منذ زهاء قرن.. إنها التبعية حتى لو كانت لبعضهم حلما جميلا.