التبعية أصناف، بعضها ينتمي للخيانة الموصوفة وبيع الأوطان مقابل مصالح وامتيازات فردية أو فئوية وبعضها الآخر ينتمي لخانة أخرى ولروابط ما فوق الوطنية، روابط تبنيها العقائد والإيديولوجيات بين تيارات وأحزاب «شقيقة» تكون الوشائج بينها أقوى من الرابطة الوطنية في شكل امميات كلية أو جزئية كما كان الحال عند الأحزاب الشيوعية وبعدها عند الأحزاب القومية العربية بشقيها الناصري أو البعثي ثم في ما عرف بحركات الإسلام السياسي أو التنظيم العالمي لحركة الإخوان المسلمين. وتصبح التبعية الإيديولوجية أمرا واقعا عندما تنتصر بعض هذه الأحزاب في بلدان بعينها فتصبح هي القائدة والآمرة الناهية وبقية الأحزاب «الشقيقة» تابعة لها.. هذا كان حال الأحزاب الشيوعية مع موسكو زمن الاتحاد السوفياتي أو مع بيكين زمن ماو تسي تونغ والأحزاب العروبية مع دمشق وبغداد زمن حكم البعث أو مع ليبيا معمر القذافي بالنسبة للحركات الناصرية والآن هذا هو حال حركات الإسلام السياسي مع تركيا أردوغان.
وبالطبع يمكن أن تتوهم كل الحركات التابعة أنها تملك زمام أمرها وأن علاقتها بالحزب الشقيق الفائز قائمة على أخوة متكافئة ولكن فوز حزب عقائدي في دولة لها طموحات هيمنية حتى على المستوى الإقليمي يغيّر جذريا هذه العلاقة من ندية أولى افتراضية إلى تبعية حقيقية وذلك أيا كانت التبريرات المقدمة هنا أو هناك.
لا يشك احد في إرادة القوة التي تظهرها تركيا اليوم كقوة إقليمية صاعدة لها امتداداتها الاقتصادية والعسكرية ومناطق نفوذها وتأثيرها وتحالفاتها وعداواتها..تركيا اليوم قوة إقليمية يقرأ لها حساب في التوازنات الدولية الكبرى - تماما كإيران- وقد تمكنت من خلق مناطق نفوذ بالاعتماد على اقتصاد نشيط مكنها من اكتساح أسواق عديدة وكذلك بالاعتماد على البعد التركماني في البلدان الأسيوية المتاخمة لها وبهيمنتها المادية والمعنوية على كل حركات الإسلام السياسي السنية في المنطقة العربية..
في هذا الإطار يمكن أن نفهم زيارة راشد الغنوشي يوم السبت الفارط إلى تركيا لملاقاة رجب طيب اردوغان بصفة فردية ثنائية، ورغم بيان حركة النهضة الذي يتحدث عن الصفة الحزبية للقاء فإن وكالة الأناضول تتحدث عن الصفة الرسمية للمدعو التونسي. أما التهنئة بالسيارة التركية والقول بأن هذه الزيارة جاءت لتستحث الاستثمارات والشراكات التركية في تونس فأمر مثير للاستغراب إن لم نقل للضحك..
ما اتضح يوم السبت بكل وضوح هو تأكد علاقة التبعية وأن حركة النهضة ورئيسها بالنسبة لتركيا اردوغان إن هي إلا قطعة في إطار سياسة الدولة التركية اليوم وتصورها لمصالحها القومية في منطقة غرب المتوسط ،وذلك أيا كانت نوايا الجهة التونسية..
إن هذا اللقاء الثنائي يمثل خطيئة بالمعنى العميق للكلمة وذلك أيا كانت الصفة التي يريد السيد راشد الغنوشي إضفاءها على نفسه، فلا يحق له لا بوصفه رئيسا لمجلس نواب الشعب ولا بوصفه رئيسا للحركة الإسلامية أن يلتقي رئيس دولة بصفة انفرادية ودون تفويض واضح وصريح من المسؤول الأول عن الديبلوماسية التونسية الرئيس قيس سعيد، وهذا بالطبع في أقصى الحالات لأن للديبلوماسية هياكلها وكفاءاتها ومؤسساتها وكل تدخل فيها باسم «الديبلوماسية الشعبية» إنما هو تشويش عليها وضرب لوحدتها ولجديتها وتوفير الشروط الموضوعية لاختراقها..
وها نحن نرى النتائج اليوم بأم أعيننا إذ نجد من مواطنينا من يبرر هذه التبعية بتبعية آخرين لمحاور إقليمية أو دولية أخرى وكأن اصطفاف بعضهم وراء المحور الإماراتي السعودي المصري أو وراء فرنسا أو الولايات المتحدة الأمريكية مبرر كاف لاصطفاف النهضة، وغير النهضة، وراء المحور التركي القطري بتعلة أن بعض المحاور عدوة للثورة والديمقراطية بينما تكون الأخرى صديقة وحليفة لها..
قلنا في البداية بأن هذا الصنف من التبعية ناجم عن أخوة عقائدية في البداية واصطفاف سياسي فيما بعد واعتقاد بأن هنالك محاور طيبة وأخرى شريرة وينتج عن كل هذا خلط في الأدوار وتجاوز للخطوط الحمر ووضع النفس – دون الوعي بهذا ضرورة- على ذمة استراتيجيا دولة أجنبية للدفاع محليا عن اختياراتها وهذا ما نلاحظه بوضوح في الأزمة الليبية الحالية حيث تغلب الولاءات الإقليمية عند بعض الساسة والمثقفين إلى درجة أنها تختلط عندهم بالمصالح الوطنية الصرفة..
الحل واضح والحد الفاصل بين الوطنية والتبعية صريح وهو القطع مع كل علاقة إستراتيجية بحزب أو بدولة أو بحلف وترك كل هذه التقديرات الإستراتيجية العملية للدولة ولأجهزتها فقط لا غير.. وهذا بالطبع لا ينفي الصداقات والتعاون ولكن بين المتماثلين فقط (حزب مع حزب وجمعية مع جمعية) ودون ربط أية تحالفات إستراتيجية تتجاوز حدود الوطن.
ما أقدم عليه راشد الغنوشي يوم السبت الفارط خطيئة بكل المقاييس وذلك أيا كانت الصفة التي قابل بها انفراديا رئيس دولة أجنبية،والواجب ليس في تصحيح الشكل بل في مراجعة الأصل وفي التخلي عن كل الروابط الإستراتيجية ما فوق الوطنية حتى يكون فعلا الوطن للجميع.