كل وشائج الترابط على مرّ العصور. ولا يمكن لنا كأفراد أو مؤسسات أو دولة إلا أن نعمل على وقف هذا النزيف وحقن الدماء وتيسير وجود حلول ليبية ليبية تقي أشقاءنا ما أمكن من ويلات التدخلات الأجنبية..
ولكن لا مناص من الإقرار بأن الوضع المتفجر في جارتنا الشقيقة قد خرج ومنذ 2011 عن سيطرة الفاعلين الليبيين فأصبحت ليبيا مسرحا لصراعات إقليمية ودولية فطغى في حالات عدّة منطق الرصاص على منطق الحوار وسط اصطفافات مرعبة وحسابات إقليمية جلّها لا يريد الخير لليبيا ولليبيين..
لا ينبغي أن نحجب الحقيقة عن أعيننا فتونس لا تملك عناصر القوة المادية آو السياسية التي تجعل منا عنصرا فاعلا للخروج من هذه الأزمات المتعددة التي يعيشها أشقاؤنا الليبيون وآخرها هذه الحرب المفتوحة المدمرة بين خلفية حفتر وجيوشه وحكومة السراج وأنصارها والتي استعرت نيرانها منذ أفريل الماضي..
ينبغي الإقرار أيضا بأن بعض القوى السياسية الفاعلة في البلاد ترى في هذا الاحتراب الليبي نوعا من الامتداد لصراعاتها الداخلية في تونس ولما تعتبره صداقتها الإقليمية كذلك، فجماعة الحلف القطري التركي مع حكومة السراج وجماعة الحلف الإماراتي المصري السعودي مع خليفة حفتر ولكل حلف امتدادات دولية وكل جماعة، في تونس،تمني النفس بانتصار أصدقائها في ليبيا عساه يكون ممهدا لانتصارها، المتوهم، في تونس..
لاشك أن عدم انخراط تونس الرسمية، إلى حدّ الآن، مع أحد هذين الحلفين المتقاتلين يعطي لبلادنا هامشا من المساحة السياسية للتأثير الايجابي – ولو كان ذلك متواضعا – في الشأن الليبي، وقد سعت بلادنا زمن الراحل الباجي قائد السبسي الى لعب هذا الدور في إطار ما عرف بدول الجوار الليبي وأساسا الجزائر وتونس ومصر على النأي بليبيا عن الصراعات الإقليمية وحلّ الخلافات بالطرق السلمية ولكن منذ اندلاع الأزمة الأخيرة في أفريل الفارط ومع مرض فوفاة الرئيس الباجي قائد السبسي ودخول البلاد في انتخابات رئاسية سابقة لأوانها تراجع الدور التونسي كثيرا بل لم يعد يحسب لنا أي حساب في كل المساعي الدولية سواء تلك التابعة للأمم المتحدة أم لكبريات الدول الغربية كمؤتمر برلين.
لقد أرادت بلادنا مع الرئيس قيس سعيد أن تعود إلى الساحة الليبية وكانت المبادرة التي أطلقت في إطار «المجلس الأعلى للقبائل والمدن الليبية» ولكن استقبال تونس للرئيس التركي في هذا الوقت بالذات يمكن أن يساء فهمه من الجميع وأن يرسخ فكرة أن بلادنا قد انخرطت في صراع المحاور خاصة وأن تصريحات رجب طيب أردوغان في قصر قرطاج بالذات كانت مشحونة إلى حد كبير وممهدة لوجود عسكري تركي على حدودنا الجنوبية الشرقية..
لا نعتقد أن تركيا تبحث عن تعاون لوجستي مع تونس لانزال عتادها العسكري وجنودها الذين سترسلهم إلى ليبيا، فالجغرافيا تجعلها في غنى عن هذا ولكنها تبحث ولاشك عمّا يشبه الغطاء السياسي الإقليمي لتبرير وجودها العسكري والتقاء الرئيس التونسي بالرئيس التركي قد يوهم الرأي العام الإقليمي والدولي بأن تونس لا تمانع في هذا الدور التركي العسكري في ليبيا..
لاشك أن الأعراف الديبلوماسية تستهجن رفض دولة طلب دولة صديقة يرغب رئيسها في زيارتها ولكن من حق الدولة المضيفة أن تختار التوقيت والسياق وجدول الأعمال كذلك..
الواضح أن رئاسة الجمهورية التونسية لم تستعد لزيارة من مثل هذا الحجم وبدا موقفنا السياسي من القضية الأم، الأزمة الليبية، باهتا مقتصرا على المبادرة التونسية للسلام بينما أعطينا لرئيس التركي منبرا من قصر قرطاج بالذات ليتهجم على اليونان من جهة وعلى خليفة حفتر من جهة أخرى باعتباره لا شرعية له مدافعا عن مذكرة الاتفاق الثنائية التركية الليبية لترسيم الحدود بينهما وبما يعطي امتيازات واضحة للجانب التركي دون أن يكون لتونس رأي في الموضوع، بل اكتفينا بالحديث عن بناء مستشفى عن زيت الزيتون والتمور واحتمال اقتناء تركيا جزءا من فائض الإنتاج التونسي..
في المحصلة وفرت تونس، من حيث تدري أو لا تدري، منبرا للرئيس التركي ليعطي رأيه في كل ما يتعلق بالأزمة الليبية بما في ذلك حرصه على حضور تونس والجزائر و... قطر في مؤتمر برلين وكيف أنه تحادث مع قادة العالم حول هذا.. كما قال أردوغان من تونس أن بلاده لو دعيت للتواجد العسكري من جهة رسمية،حكومة السراج، فهي ستدرس الأمر مستهجنا في ذات الوقت الحضور «الأجنبي» الآخر وكيف أن الصحافيين لا يتساءلون عن مدى شرعيته..
نؤكد من جديد بأننا لا نعتقد أن رئيس الجمهورية قيس سعيد يريد الانخراط في المحور التركي القطري ولكن القبول بزيارة أردوغان في هذا الوقت بالذات والسماح له بالحديث كما أراد عن الأزمة الليبية وأطرافها الداخلية والخارجية.. انه سوء التقدير وغياب القدرة على الاستباق كما كان متوقعا من كلام الرئيس التركي هو الذي سيضعف الموقف التونسي من جديد في الملف الليبي ويظهرنا على غير صورتنا ويوهم بأننا ندافع عن مصالح غيرنا بل الحديث بقوة عن وجهة نظرنا ومن بينها استبعاد واستهجان كل تدخل أجنبي في ليبيا حتى عندما يأتي من دول «شقيقة» أو «صديقة»..
يوم أمس كان فرصة مهدورة للديبلوماسية التونسية.