تماما كما حصل ذلك منذ شهر ونصف في انتخاب رئيس مجلس نواب الشعب،راشد الغنوشي، ونائبته الاولى سميرة الشواشي ..
منذ يوم الأحد بدأت تشتغل الآلة الدعائية النهضوية لتشهر بالتيار الديمقراطي أساسا وكذلك بحركة الشعب وتحيا تونس لرفض هذه الأحزاب الدخول في حكومة ائتلافية مع حركة النهضة والنية واضحة في هذا التركيز المكثف وهي تمرير التحالف «الخجول» بين النهضة وقلب تونس دون ضجيج كبير وتحت يافطة مغالطة عنوانها «حكومة كفاءات وطنية مستقلة» باعتبارها - في أسوإ الأحوال – ضرورة دفعتها إليها هذه الأحزاب «غير المسؤولة» والتي رفضت خدمة البلاد رغم «مرونة» النهضة ورئيس حكومتها المكلف وتنازلاتهما «الكبيرة» واستجابة لمطالب «مجحفة» وتغليبا «للمصلحة الوطنية» ولكن «فوبيا» الحكم فوتت هذه «الفرصة» على البلاد فاضطرت النهضة مكرهة إلى هذا التحالف «الخجول» الذي لا يجرؤ حتى على نطق اسمه، دون أن تقول لنا حركة النهضة بالطبع بأنها كانت تشتغل على هذا السيناريو منذ الأسابيع الأولى بعد الانتخابات التشريعية لـ6 أكتوبر وذلك رغم اللاءات المتكررة إعلاميا تجاه وضع اليد مع حزب تحوم حوله وحول رئيسه «شبهات فساد»..
في السياسة الوعود لا تلزم إلا من يصدقها ،واليوم سيستفيق كل من صدّق التضادّ التام بين النهضة وقلب تونس انه كان واهما وان الصراع الحاد بينهما إبّان الحملة الانتخابية كان هدفه الوحيد هو الفوز بالمرتبة الأولى ومن ثمة اخذ زمام المبادرة السياسية لتشكيل الحكومة وتحسين شروط التفاوض مع «غريمه» فقط ليس إلا ..
ورغم انه كان بالإمكان وجود حكومة يستبعد منها قلب تونس إلا أن التحالف النهضوي القلبي من طبيعة الأشياء وحتى وإن لم يحصل في حكومة الحبيب الجملي الأولى فهو بالتأكيد سيحصل في بقية الخماسية وذلك رغم المجازفة الكبيرة التي ستقدم عليها حركة النهضة بالخصوص بتركها لمعارضات قوية ووازنة داخل مجلس نواب الشعب وخارجه ، معارضات بإمكانها التظافر من اجل إفشال الحكومة النهضوية القلبية.. ولكن النهضة ورغم وعيها بكل هذا فهي تقدر بأن لا إمكانية لها سوى الهروب إلى الإمام مع قلب تونس في انتظار «معجزة» قد تأتي وقد لا تأتي..
لا يخفى على أحد أن حركة النهضة ورغم تقدمها النسبي في تشريعية 2019 إلا أنها في أسوإ أحوالها اليوم منذ انتخابات المجلس الوطني التأسيسي إذ لم تحصل إلا على اقل من %13 في الدور الأول للرئاسية وأقل من %20 في التشريعية وهي اليوم مهددة من تيارات اسلاموية وشعبوية منظمة وغير منظمة يمكن أن تجعلها تنزل إلى ما دون %10 في التشريعية القادمة مؤذنة بذلك على بداية النهاية للحلم النهضوي ..
تجد النهضة نفسها اليوم أمام تحديين كبيرين : إثبات أنها ضرورية لحكم البلاد وأنها قادرة على تحسين الوضع العام للمواطنين أولا وأن خصومها من الشعبويين المحافظين (وجلّ هؤلاء من أنصار قيس سعيد) غير قادرين على تقديم أي شيء للناس ولذلك فهي مستعدة للتحالف مع «الشيطان» على أن تهدي المبادرة السياسية لتشكيل الحكومة لصاحب قرطاج (في أوقات الدوام فقط) ولذلك رفض الغنوشي بوضوح مقترح سعيد لمواصلة التشاور مع أحزاب «الخط الثوري»..حتى لا يعطيه أي مجال سياسي عملي يتحرك فيه باستثناء الاختيار المطابق لوزيري الدفاع والخارجية ..
لا نعتقد أن النهضة تراهن كثيرا على نجاح منقطع النظير لحكومة الجملي القادمة ،بل هي تراهن فقط على الإمساك بتلابيب السلطة وانتظار تحسن بعض المؤشرات الاقتصادية الكبرى كالنمو أو التضخم أو المديونية أو الاستثمار أو الادخار لتنسج مروية نجاح نهضوي صرف وأنها تمكنت من إيقاف النزيف تماما كما سعى إلى ذلك من قبل يوسف الشاهد ، ثم كما يعلم الجميع الأرقام «مرنة» يمكن أن نقوّلها ما نريد شرط أن يحصل تحسن ما في الأفق..
هل يدرك العقل النهضوي المهيمن حجم وعمق الصعوبات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها البلاد ؟ لا نعتقد فهذا قد يدركه بعض وزراء النهضة في هذه الخماسية المنتهية ولايتها ولكن هذا الوعي الفردي لم يتحول ، في ما نرى، إلى وعي جماعي..أو على الأقل لا تتصرف القيادة النهضوية اليوم وفق وعي حادّ بهذه الصعوبات الهيكلية وهي مازالت واقعة تحت ربقة السياسي الإيديولوجي في نظرتها للبلاد ولدورها هي بالذات .
وفي المقابل حصل قلب تونس على ما يريد : إنهاء شيطنته وعزلته السياسية والتعامل معه كحزب مسؤول ووازن لا كمجموعة أفراد ملتفين حول نبيل القروي وفي المقابل سيكون قلب تونس حليفا وديعا للنهضة لا يزعجها كثيرا في التعيينات والقرارات مادامت لا تستهدف الحزب وقياداته .
التاريخ يعيد نفسه كما قال كارل ماركس ولكن في الأولى يكون كالمأساة وفي الثانية كالمهزلة ..يبقى فقط أن نعرف في أي مستوى نحن الآن ..