يتنافس في التشريعية وان هذه المشروعية تجعله غير مدين لأحد من أنصاره ولا للأحزاب والشخصيات التي ساندته، هو مدين فقط لكل من صوت له وسيكون انطلاقا من اليوم حتى قبل أداء القسم الدستوري رئيسا لهم ورئيسا لمن لم ينتخبوه ثانيا ورئيسا لكل من لم ينتخب ثالثا..
قد يبدو سؤالنا في العنوان استفزازيا إلى حد ما، فكيف يخشى من انتخبه931 777 2 من التونسيين العزلة والحال انه يحظى، كما أكدنا ذلك في البداية بشبه إجماع وطني؟
من مفارقات الأشياء في كل المجالات وفي السياسة خاصة أن العزلة قد تنشأ من هذه الوضعيات شبه الاجماعية.
لنتذكر جيدا ما حصل للرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك في الانتخابات الرئاسية لبلاده في سنة 2002 حيث حصل في الدور الأول على المرتبة الأولى وعلى اقل من %20 (تماما كقيس سعيد) وفاز على خصمه ،زعيم أقصى اليمين آنذاك جان ماري لوبان في الدور الثاني بـ%82 من الأصوات (أكثر من قيس سعيد بـ10 نقاط) وكانت له الأغلبية المطلقة في البرلمان الفرنسي، ورغم كل ذلك عاش جاك شيراك حالة من العزلة خلال خماسية حكمه ولم يتمكن فيها من ترك اثر يذكر ..
قيس سعيد لم يكن مرشحا نمطيا وقد تمكن بشبكات أفقية شبابية في اغلبها من التقدم في الدور الأول وتضافرت عوامل عميقة جعلت منه الفائز الكبير في الدور الثاني واهم هذه العوامل رغبة جموع التونسيين – لا الشباب فقط – في التغيير المادي والمعنوي للحكام ولطريقة حكمهم..
فالشباب المؤمن بأفكار قيس سعيد لا يكاد يمثل %10 او %15 من مجموع الذين صوتوا له في الدور الثاني أما البقية فهاجسهم الأكبر هو تحسن واضح لأوضاعهم المادية وهم يأنسون في الرجل نظافة اليد والوطنية وشهامة غابت عن فاعلين سياسيين كثر ..
هذا التصويت بهذه الكثافة وبهذه التركيبة وبهذه المطالب الضامرة هو الخطر الأول لعزلة قيس سعيد لو أساء فهمه أو تقديره.
أول امتحان أمام الرئيس الجديد هو في اختيار ديوانه وأهم معاونيه والفخ الأول بالنسبة إليه يتشكل من صنفين : الاقتصار فقط على أنصاره أو الابتعاد كلية عنهم.
الاقتصار على الأنصار الخلص سيجعل قيس سعيد يعيش في عالم مغاير لعالم عموم التونسيين ولهواجس لا يشاطره فيها بالضرورة جل ناخبيه ومواطنيه ويجعله في عزلة نفسية عما يسمى بنبض الشارع أي محرار الرأي العام .
أما إبعاد كل الأنصار وإحاطة النفس بخبراء فهو أيضا فخ لا بد من اجتنابه لأنه قد يقطع خيط الثقة بين الرئيس والحالمين بفكره كما أن الخبراء ليسوا دوما أفضل الناصحين لرئيس الجمهورية..
تشكيل الديوان الرئاسي سيرسل لنا رسائل جد مهمة وسيقول لنا هل أن الرئيس الجديد للجمهورية مدرك لأعباء المسؤولية الملقاة على عاتقه وهل انه أحاط نفسه بأفضل فريق ممكن لفهمها بالتفصيل أولا وللتأثير، قدر الإمكان، على السياسات العمومية ثانيا؟
لاشك لدينا أن لرئيس الجمهورية الجديد أفكار حول حوكمة البلاد والنهوض بها وانه جاب جل معتمديات البلاد واتصل بالشباب فيها ولكن يبدو أن جوانب أساسية غائبة عن «رادار» الرئيس، ونقصد هنا عالم المؤسسة الاقتصادية أين تخلق الثروة والقيمة المضافة وأين تكمن أهم مشاكل البلاد في القدرة على دفع نسق النمو والنهوض بآلاتنا الإنتاجية في سلم القيم.. ويبدو كذلك أن أهم ملفات الاقتصاد التونسي وتعقيداته لم تكن الشغل الشاغل للمترشح قيس سعيد هذا دون الحديث عن الجوانب التقنية في المالية العمومية والتوازنات الكبرى للبلاد والإمكانيات التنموية لكل جهة. ويمكن أن نضيف إلى هذا ملفات الخدمات العمومية من صحة وتعليم ونقل وكذلك الوضع البيئي للبلاد الخ.
لاشك أن جل هذه المجالات تهم بالدرجة الأولى الحكومة ولكن رئيس الدولة غير مدرك بدقة لمشاكل البلاد ولإمكانيات النهوض الاقتصادي ومكامنه لا يستطيع التأثير إيجابيا على مجريات الأمور وسيجد بالتالي نفسه في صنف آخر من العزلة ومن هنا تكمن أهمية الفريق الاقتصادي الذي سيحيط بالرئيس وعلى ألا يكون غارقا في عالم المثل والنظريات وجاهلا بالآليات الفعلية التي تشتغل بها آلتنا الإنتاجية..
سيكون جل التونسيين منتبهين لتصرف الرئيس المنتخب في مجالي اختصاصه الأساسيين كما ضبطهما الدستور : الأمن القومي (بالمعنى العسكري للكلمة لا بالمعنى الفضفاض الذي يدافع عنه البعض) والديبلوماسية..
هنا لن يخرج كثيرا الرئيس القادم من مناطق رفاهه الذهني إذ هو أمام مجالات سيادية تحكمها قوانين محلية ودولية ولكن الهام هنا هو التوجهات التي سيعبر عنها في معركة تونس ضد الإرهاب وفي مواقفه من مسائل التشدد الديني والتطرف والعنف والخطر المحدق به هنا هو ألا يكون بالحزم الكافي أمام بعض المجموعات المتطرفة التي تعتقد أنها ساهمت في فوز قيس سعيد وان هذا سيعطي لها مجالا من الحركة حرمت منه في السنوات الأخيرة ..
إن عودة ما يشبه روابط حماية الثورة هو اكبر خطر يهدد الرئيس المنتخب وقد يعزله عن جزء من ناخبيه ومن الرأي العام كذلك..
هنالك مجال آخر لا يعود دستوريا إلى رئيس الجمهورية ولكن بإمكان قيس سعيد أن يلعب فيه دورا رائدا وهو الفكر والثقافة والفنون لا فقط بالنسبة للمشتغلين في هذه المجالات ولكن كذلك في حق كل التونسيات والتونسيين بالتمتع بمقادير من الفكر والثقافة والفنون.. يمكن للرئيس قيس سعيد دون كبير عناء أن يكون المدافع الأول في البلاد عن الفكر والثقافة والفنون بدعم المبدعين والدفاع عنهم وفتح القصر لهم ودفع الاستثمار العمومي والخاص تجاههم وان يضيف إلى الديبلوماسية الاقتصادية الضرورية ديبلوماسية أخرى لا تقل عنها أهمية وهي الديبلوماسية الثقافية..
بإمكان قيس سعيد - لو أراد ولو أحسن إحاطة نفسه - أن يكون رئيس الفكر والثقافة والفنون للمفكرين والمثقفين والمبدعين وكذلك سائر التونسيين.
سياسيا ومؤسساتيا سيكون الرئيس الجديد أمام أكبر تحد له هو تحقيق أجزاء من برنامجه في إعادة بناء مؤسسات الدولة وفي حوكمة الديمقراطية.
بإمكان قيس سعيد ان يركز في مبادراته التشريعية على هذه النقاط وان يسعى لوضع هذا البرلمان المشتت أمام مسؤولياته وانه هو الذي رفض تنقيح الدستور بما يستجيب ومطالب الديمقراطية التشاركية التي تنطلق من القاعدة الى القمة.
بإمكان قيس سعيد ان يقول للتونسيين ها ان برلمانكم يرفض الإصلاح ولا يريد ان يسير في طريق الثورة وهذا سيفرح أنصاره الخلص كثيرا ولكن ماذا عن بقية التونسيين؟
هل سيفهم عموم التونسيين صراعا فاترا او قويا بين رئيس الجمهورية ومجلس نواب الشعب حول تنقيح الدستور والانطلاق في الانتخابات من العمادات بدلا من الهيكلة الحالية؟ أليس الأجدر ان تهتم السلطتان التنفيذية، ممثلة في الرئيس هنا، والتشريعية في المشاكل الحياتية للتونسيين؟
هنا أيضا خطر لعزلة الرئيس لا عن أنصاره هذه المرة ولكن عن عموم التونسيين ..
الانتصار العريض لقيس سعيد يحمّله أعباء إضافية ويجعله، أحب أم أبى، محل مساءلة شعبية لا فقط في المجالات الحصرية لمهامه ولكن أيضا في المجالات الاقتصادية والاجتماعية لعموم الناس وهنا الطريق ليست معبدة والصعاب كثيرة ووضع البلاد لن يتحول فقط لان لدينا رئيسا نظيف اليد – وهذا هام جدا في حد ذاته – والإصلاحات التي على السلط المنتخبة كلها الإقدام عليها وعلى افتراض انها كلها في الاتجاه الصحيح لن تؤتي أكلها قبل سنوات..
في الأثناء يتمتع قيس سعيد بعنصر مفقود عند كامل الطبقة السياسية وهو ثقة الناس فيه، ولكن الثقة كالحبّ تحتاج إلى أدلة لتعيش..