إذ يخلّد اسمك باعتبار أنك الشهيد الذي قدّم التضحيّة من أجل أن يعيش الآخرون في كنف مجتمع المساواة و الكرامة والعدالة... ولكنّ الأصعب هو أن تعيش من أجل مبادئ الثورة... من أجل ترسيخ قيمها على أرض الواقع... وهو أن تمتلك رؤية ومشروعا وتلتزم بالإصلاح الهيكليّ وتجديد أدوات الفهم والتحليل ونمط التفكير وأن ترسي بنية علاقات جديدة ومؤسسات تتسم بالفاعليّة... وهو أن تطبّق المفاهيم (الحوكمة الرشيدة والمساءلة والمحاسبة....) بالفعل فتحوّلها من الشعارات الجوفاء إلى الممارسة.
غير أنّ هذا التصوّر الخاصّ بسبل إنجاح المسار الانتقالي قُبر على أيادي أبنائه الذين منحوا فرصة إحياء الحياة السياسية فكانوا معاول هدم: حقّقوا المصالح الشخصيّة ولوّثوا المشهد فبرزت البشاعة وعمّ الخراب بالرغم من كلّ الجهود المبذولة من أجل إنقاذ البلاد وتحقيق «الاستثناء» في أن تكون التجربة التونسية أنموذجا وأن تكون تونس قاطرة التحديث والديمقراطية.
فهل تكون العلّة في التعامل مع الزمن؟ ذلك الذي أراده الفاعلون الجدد أن يكون زمن السرعة والبرغماتية الفجّة: نيل السلطة وتحقيق المكاسب الشخصيّة، ومكاسب ذوي القربى والعشيرة... فأضحى زمنا استحواذيا سيطر عليهم وأسرهم وجرّهم إلى الوراء: زمن الاستبداد وفساد الأسرة الحاكمة وجشع أفرادها... زمن القطيع والراعي المستحوذ على النعم.وبناء على ذلك لم يكن وعي الفاعلين السياسيين ومن دار في فلكهم بالزمن خطيّا : له مسار وغائية...نقطة انطلاق وهدف... زمن المشاريع البنّاءة...زمن الفهم والاستيعاب والأناة والتدرّج فلا انفلات ولا إفراط ولا عبث بمصائر الناس...
هل تكون علّة ما أصابنا في تصوّر بنية علاقة الدولة بالمواطنين؟ إذ رسّخ الساسة الجدد حالة غير الرشد ففرضوا الوصاية على التونسيين وزعموا أنّهم يرعون مصالح الشعب واستثمروا في الهشاشة وتلاعبوا بالعقول وبالسياسة والقيم والدين... وزيّفوا الوعي والتاريخ.
هل ترجع العلّة إلى عسر إحداث القطيعة مع الأيديولوجيات والصراعات القديمة التي لم تحسم فبقيت تركتها فاعلة في الذاكرة تُوجّه الفاعلين نحو العراك بدل التعايش على قاعدة التفاوض على إدارة المرحلة وفق شروط الحاضر؟
هل يعود الأمر إلى ضعف الثقافة السياسية وعدم تحيين المعارف في ضوء التحولات الجديدة ؟ إذ ظلّ الفاعل السياسيّ يخبط خبط عشواء بلا سند ولا زاد متعنّتا رافضا الإصغاء ومنبهرا بما حقّقه ومستمتعا بموقعه مؤمنا بثقافة «السلفي» أكثر من إيمانه بثقافة البناء وخدمة الناس؟
هل مردّ ما وصلنا إليه تضخّم الأنوات ورفضها رؤية الواقع المتغّير بنسق سريع حتى حدث ما حدث وهي في غفلة من أمرها ؟ ولذا صمتت ولم تستطع أن تواجه الجماهير ولا أن تقدّم الاعتذارات... والعاجز عن إنجاز المراجعات لا موقع له في المشهد الجديد لاسيما بعد أن تعرّى الفاعلون وما عاد بالإمكان إسدال الستار على عوراتهم.
هل يعود الأمر إلى طغيان حالة العمى الإدراكي على أصحابها ؟ إذ أنّهم لم يصدّقوا أنّ هذا الشعب الوديع المطحون تحت وطأة أزمات متعاقبة بإمكانه أن يتململ من جديد ويردّ الفعل على طريقة «حرق نيرون روما»: عليّ وعلى أعدائي. هذا الشعب الذي اختزله البعض في «شعب النهضة» والبعض الآخر في «شعب النداء» فها هو اليوم يكتسح المجلس التشريعي ليسائل: هل إنّ فضاءات الحكم نخبويّة؟ أليست المشاركة في الفضاء العام Agora وفي المدينة من حقّ الجميع ؟ أليس من حقّ كلّ طوائف التونسيين أن يمارسوا السلطة ويتدربوا مثلما تدرّب غيرهم؟ .
هل يرجع الأمر إلى أتباع الثالوث : السياسية /الإعلام/ المال والأدوار التي اضطلع بها عدد من الإعلاميين ورجال/نساء المال وأهل السياسية في سبيل تحقيق مصالحهم حتى وإن أدّى الأمر إلى إحباط التونسيين والهيمنة على عقول نسبة كبيرة منهم وتحويلهم إلى مدمنين على برامج تزييف الوعي وصناعة الرداءة وترسيخ النفاق والرياء والابتذال ؟ حتى وإن أدّى الأمر إلى تهميش المثقفين/ات وتغييب الأصوات الجديدة.
هل يتعلّق الأمر بأداء النخب المثقّفة التي بقيت في الغالب ، متمسّكة بتمثلات لا تعكس الواقع رافضة الاعتراف بالمغاير والمختلف وعاجزة عن تحليل التحولات في البنى الاجتماعية والذهنية وغير مدركة للإرباك الحاصل في نظام التمثلات؟
من السهل أن ننتقد ونلعن الزمن ونبكي «تونس» التي خذلها أبناؤها... ومن السهل أن نبحث عن بلد آخر للإقامة بعد أن استحال العيش في بلد المفارقات والأزمات... ولكن من الصعب أن نفكّر في صياغة عقد اجتماعيّ جديد وأن نغيّر زوايا النظر وأن نفكّر في أشكال العيش معا والتفاوض من أجل تصحيح المسار...ذاك هو الرهان الحقيقيّ.