الذي يشقّ طريقه نحو التحوّل الدّيمقراطي رغم التّحديات الأمنيّة والانحرافات الجوهريّة الّتي لا زال يواجهها.
لكن في هذه اللّوحة المشرقة يبقى ظّل مخيّم، يكاد يهدّد الأداء السياسي ونعني بذلك الوضع الاقتصادي والمالي المتأزّم للبلاد .
لقد ولدت ثورة الحرية والكرامة لإفتكاك الحريات المقموعة وقبل كلّ شيء لتلبية المطالب الاقتصاديّة والاجتماعيّة المنسيّة لحقبة طويلة.
بعد نشوة الأسابيع الأولى من سنة 2011 أخذت النخبة السياسيّة بزمام الأمور وأدارت المرحلة الانتقالية حسب ثقافاتها الموروثة وأولت اهتماماتها الى تحرير الحرّيّات ولم تتفطّن الى معالجة الكرامة بل ظنّت أنّ ذلك يمرّ عبرالبرّ والإحسان والصّدقة والتحويلات الاجتماعيّة وتوزيع ما لم يتمّ خلقه من ثروات و بعد أكثر من ثماني سنوات ، قطعت الحريّات و خاصّة منها الشكليّة شوطًا طويلاً في حين تدهور الوضع الاقتصادي والمالي بشكل فاحش وملحوظ.
كانت الاهتمامات السياسيّة الوحيدة آنذاك؛ الاستقرار السياسي والأمني وصون السّلم الاجتماعي، وتكفّل تقاسم الغنيمة وسوء الإدارة بالباقي: تعيينات عشوائية مبالغة ، وتسوية وضعيات السجناء السابقين أو المنفيين السياسيين بتكلفة كبيرة لم يكشف عنها إلى الآن وزيادة في الأجور لا صلة لها بالنمو.
كلّ هذا، في ظلّ إنعدام الاصلاحات، تمّ تمويله كلّيا بالإعتماد على القروض الخارجيّة أساسا.
في بداية عام 2011 ، كان احتياطي البلاد من العملة الأجنبية يمثّل 153 يومًا من الواردات ، وكان عجز الميزانيّة محدودًا بنسبة 1٪ من إجمالي النّاتج المحلي ، وكانت الدّيون الخارجية للبلد لا تفوق 40٪ من إجمالي الناتج المحلي وكان اليورو يساوي 1,800 دينار.
بعد مرور أكثر من ثماني سنوات ، تتراوح احتياطيّات العملة الأجنبيّة بين 90 و 100يومًا من الواردات، ويظاهي عجز الميزانيّة 5٪ من إجمالي الناتج المحلي ، ويناهز الدّين الخارجي 100٪ من نفس هذا الناتج المحلي، ويُتداول اليورو ب 3،250 دينار بعد أن ناطح 3,5 دينار. و بلغ التضخم ذروته عند حوالي 8٪ ويبقى تراجعه هشّا وضعيفا وتنتكس القدرة الشرائيّة للمواطنين.
التزمت الحكومة التونسية من خلال توقيع الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي في ماي 2016 ، بالإصلاحات وبلوغ عدد من الأهداف الكمية والكيفية دون أن تحسن آنذك تقدير صعوبات التنفيذ.
أصدر صندوق النقد الدولي مؤخّرا تقرير المراجعة الخامسة لهذا الاتّفاق ولئن كانت النّبرة دبلوماسية ، فإنّ التّقرير شديد اللّهجة و يذكر مباشرة أنّ «النّمو متواضع وأنّ هناك نقاط ضعف هامة على مستوى التّوازنات الاقتصاديّة الكبرى».
ويشير التقرير مباشرة إلى تفاقم العجز الجاري إلى 11.2 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي وعدم احترام العديد من المعايير المتّفق عليها.
ويدعو التقرير السّلطات إلى المثابرة لخفض عجز الحساب الجاري من خلال دعم إجتماعيّ أفضل إستهدافًا ومرونةً أكثر لسعر الصّرف ومكافحة أكبر للتّضخم مع تشديد السّياسة النّقدية.
وما هذا بإختصار إلّا دعوة رسميّة إلى إعتماد سياسة الخنوع والانكماش.
إنّ الطريق نحو انتعاشة الماليّة التّونسيّة بمرافقة صندوق النّقد الدولي وشروطه طريق ضيق ،إذ أنّ السّياسات المعتمدة بالتّنسيق مع صندوق النّقد تتناول الآثار وتتجاهل المسبّبات.
المشكلة في تونس هي أن البلاد تفقد يوما بعد يوم قدراتها الصناعية ، فهي تستهلك دون أن تنتج وتستورد دون أن تصدّر.
نحن نحتاج اليوم إلى استراتيجيات صناعية وزراعية وخدماتيّة. يجب على آولي الأمر التوقف عن توزيع الثروة غير المنتجة و العدول عن دعوة بقية بلدان العالم لدعم انتقالنا السياسي دون أن نتحمّل مسؤوليّتنا فيما يخصّ الإصلاحات وإعادة تنظيم البيت.
ولن يكون لنا ملاذ من إعادة الجدولة للديون الخارجية للبلاد، فعبءها أضحى لا يترك هامشًا كافيا للاستثمارات العامة اللازمة للاستجابة لحاجيات التنمية العادلة أو لإعادة توجيه السياسات العمومية .
و أكثر من أيّ وقت مضى لا تزال القولة الشهيرة للبارون لويس، وزير مالية تاليران، نافذة المفعول: «أعطوني سياسة جيّدة و سأعطيكم ماليّةً جيدةً».
إنّ تونس لا تفتقر الى الأسس والقدرات لتتعافى، إنّما يتطلب ذلك رؤية واضحة وإصلاحات جريئة وتماسكا إجتماعيّا ودعما أقوى من المجتمع الدّولي وستكون الانتخابات القادمة حاسمة لمستقبل الديمقراطية الفتيّة وذكّر فإنّ الّذّكرى تنفع المؤمنين.