سوى روايات ومرويات لا يمكن القطع بصحتها فينحصر التفكير ضرورة في كبائر الأمور ويهمل - اضطرارا- صغائرها ..
ولكن السياسة اليوم تحت المجهر بل تحت المجاهر بصحيحها وسقيمها، مجاهر تضخم الجزئيات فيقتات منها الإعلام ويُتجادل حولها في الفضاء العام وتصبح محور تعليقات هذا الفضاء الافتراضي الجديد الذي يصنع الملوك ويحطمهم في آن واحد..
ترى ماذا حصل لصاحب القصبة في سنة واحدة لينتقل من تحميل مسؤولية تدمير حزبه والإضرار بمصالح البلاد إلى حافظ قائد السبسي في المباشر وعلى مرأى ومسمع جميع التونسيين ، ليهب له اليوم «باتيندة» انتزعها منه الصندوق في مؤتمر أريد له أن يكون على مقاسه ولكن خلاّن الأمس نصبوا له كمينا كاد أن يكون قاتلا..
ما الذي تغير في سنة واحدة ؟ بل في أسابيع قليلة؟
إنها شهية السلطة فقط لا غير.. انه منطق الحكم كما كان سائدا في غابر العصور.. منطق الغاية تبرر الوسيلة، كل وسيلة حتى لو تناقضت مع الخطاب العلني وحتى لو تناقضت مع منطق الدولة وأولوياتها ومصالحها..
منذ إعلان يوسف الشاهد تمرده على ولي نعمته ساكن قرطاج حدد إستراتيجية المقاومة ثم المباغتة والهجوم وفق مبدإ واحد وحيد : البقاء في الحكم اليوم وغدا والتسويق بأن هذا البقاء هو الاستقرار السياسي اليوم وأن الاستمرار غدا هو ضمان انجاز الإصلاحات التي لم يتمكن من انجازها خلال سنوات حكمه الثلاث التي لم يعد يفصلنا عن استكمالها سوى شهرين فقط..
البقاء في الحكم هو الذي برر التحالف غير المشروط مع حركة النهضة صاحبة الفضل الأولى عليه ثم مع سليم الرياحي ونوابه في مرحلة أولى لضمان تعيين وزير الداخلية الحالي ثم عملية السطو على الأحزاب الصديقة والشقيقة ليكون منها حزام الحكومة السياسي الجديد فإنشاء حزب «تحيا تونس» الذي أريد له أن يرث النداء سياسيا وانتخابيا وبالتالي تستمر مغامرة الحكم لخمس سنوات قادمة على الأقل..
وجرت الأمور وفق هذا التخطيط وتحول توافق الشيخين إلى توافق جديد واستراتيجي بين النهضة ومشروع الشاهد ورأى العديد من نواب وقيادات النداء والأحزاب القريبة منه أن يوسف الشاهد هو بوابة النجاة للخماسية القادمة بعدما أحرق الباجي قائد السبسي كل سفنه من أجل عيون نجله ..
وكان مؤتمر النداء مناسبا جدا لمخططات صاحب القصبة إذ شهد انقساما جديدا وتطاحنا ولكن عوض أن تتصرف الدولة بمنطق الدولة وتقر بحق الأغلبية غير المطعون في أحد منها من قبل الشق المنافس في اختيار من يمثلها ، وهذا هذا هو رأي السيد الفاضل محفوظ وزير العلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الانسان ... ولكن كان لـ«دهاة» القصبة رأي آخر فخلطوا الأوراق ومزجوا بين حجة الأغلبية وانشقاق الأقلية ليقولوا بأن الموضوع محل خلاف ،إذن لا وضوح للتمثيلية القانونية ..وكان المقصود من هذا القرار السياسوي مزيد تعميق النزيف داخل النداء لياتي من بقي فيه أفرادا صاغرين يتمسحون على أهداب الحزب الجديد..
وكادت الخطة أن تنجح بالكامل لولا البروز المفاجئ لمغامرين شعبويين استفادوا من شبكات زبونية خيروية ليتصدروا كل عمليات نوايا التصويت في الرئاسية وفي التشريعية أيضا ..
هنا أضحت خطة البقاء في السلطة والاستمرار فيها مهددة في عمقها ،وصاحب القصبة لا يملك خطة بديلة ولا أمل لمشروعه السياسي في البقاء لو كان خارج الحكم وأجهزته الرئيسية فاختار الطريق الأيسر وهو قطع الطريق أمام منافسيه الجديين بقوة القانون وبموافقة قوية من الحركة الإسلامية التي تخشى بدورها صعود هذه الشعبويات الجديدة وخاصة حزب عبير موسي الاستئصالي في نظرها .
ولكن تمرير التعديلات في القانون الانتخابي وفق منطق الأغلبية لا يكفي إذ يجب أن يختم هذا القانون –في صورة عدم القضاء بلا دستوريته- وصاحب الخاتم هو .. الباجي قائد السبسي ..
ومن هنا تغيرت كل الحسابات وبدأت الهرولة في تقديم التنازلات وفي التعبير المفرط عن المحبة والتقدير والاحترام حتى لا يصطف الباجي قائد السبسي مع صديقه نبيل القروي..
ومن اجل هذا تمنع الحكومة أصحاب الحق الشرعيين من «باتيندة» نداء تونس وتعيدها بتبريرات فارغة إلى الابن المدلل كعربون أول للوفاء ولنكوص الابن العاق عن عقوقه ، ومقابل ذلك فلتذهب دولة القانون إلى الجحيم ومن لم يرض بهذا القرار فأمامه القضاء !!!
وبدل التنديد بتجاوزات النجل وتهديده لاستقرار البلاد ولمصالحها (الشاهد في جوان 2018) نضع سياسة «تلحليح» و«تزڤقديح» بالباجي قائد السبسي ونجله وبكل من بإمكانه قطع الطريق أمام القروي ولو كان ذلك بتقديم كل التنازلات وكل الضمانات والمصادقة على الصفقات التي سيفرضها صاحب قرطاج عساه يرضى عن الابن العاق ولكن اللعبة معقدة اليوم ولا احد يعلم ما سيكون موقف الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين فهي قد تقضي على أحلام الشاهد وصحبه بالضربة القاضية أو بهزيمة بالنقاط وفي هذه الحالة تكون كل هذه التنازلات بلا معنى..
ثم في صورة موافقة الهيئة الوقتية على جل هذه التعديلات وكان في نص القانون ما يكفي لقطع طريق الرئاسية على نبيل القروي فلا شيء يدفع الباجي قائد السبسي إلى نسيان الماضي وإعطاء هذه الهدية الحيوية لمن شق عصا طاعته..
ولا يهم في الأثناء أن تم الدفع بالجزء الأغلبي ممن بقي من نواب نداء تونس في أحضان نبيل القروي ولا تهم تحالفات الغد لو ضمنت للفريق الحاكم الاستمرار في السلطة.
لا يدعي أحد أن السياسة والأخلاق توأمان لا ينفصمان ولكنهما إن تناقضا الى حد القطيعة فلا بقاء للأخلاق وللسياسة معا ..
وفي أصل الحكاية هنالك فرق جوهري بين طموح البقاء في السلطة وطموح الحكم لتغيير المجتمع وإصلاحه..