وأن نسعى لفهمها خارج المزايدات السياسية لهذه السنة الانتخابية ..
لنقل منذ البداية بأن حصيلة هذه الحكومة ومن ورائها أغلبية الحكم لكامل هذه الخماسية هزيلة للغاية فلا هي قامت بالإصلاحات الضرورية ولا هي أنعشت الدورة الاقتصادية إذ بعد أن وعدتنا بمعدل %5 لكامل هذه العهدة كل المؤشرات تدل بأن المعدل سيكون دون %2.
ولكن السؤال الأهم للبلاد هو هل أن الحل يكمن فقط في تغيير هذه المنظومة كليا أو جزئيا أم أن الحل الابقى للبلاد هو في الاهتداء إلى السياسات العقلانية التي تكون قادرة على تحقيق نمو إدماجي للسنوات القادمة ؟
هنالك إجماع في تونس على ضرورة تغيير المنوال التنموي ولكن هنالك إجماع أيضا على عدم اتفاق واضح حول مضمون هذا المنوال وما المقصود به بالضبط ..
جل مكونات الطبقة السياسية تعتقد أن المنوال يرتبط أساسا إما بملكية وسائل الإنتاج أو بعلاقات الإنتاج وفقا للتعابير الماركسية الشهيرة أي انه موقف إيديولوجي من الاقتصاد يقسم التوجهات العامة إلى معسكرين متضادين : الرأسمالية من جهة والاشتراكية من جهة اخرى .
يخطئ من يعتقد إن هذا الجدل هو فقط جدل ستينات القرن الماضي إذ نحن نرى صورا مشابهة له اليوم في جل بلدان العالم وإن كان ذلك بتعابير مختلفة كالعولمة أو العولمة البديلة أو الطريق اللارأسمالي نحو التنمية كما نراه بصورة مخففة عند السجال حول الدور التنموي للدولة ..
اذا لا ينكر احد البعد الإيديولوجي لمسألة منوال التنمية حتى وإن كان لم يعد هنالك من يتبنى الاشتراكية بما هي تأميم وسائل الإنتاج بشكل واضح وصريح ولكن لنترك هذا البعد العقائدي جانبا ولنتحدث عن منوال التنمية الذي نقصده حتى وإن كنا نؤمن بأنه ليس مسالة تقنية وانه يستدعي أيضا الجوانب القيمية والفكرية ونظرة معينة للإنسان وللمجتمع ..
منوال التنمية الذي يقصده جل الاقتصاديين هو العناصر الأساسية التي تتكون منها جل عمليات الإنتاج في بلاد ما ..
لنعط مثلا بسيطا :
تحتل تونس اليوم المرتبة الثالثة عالميا في إنتاج زيت الزيتون وكان الموسم الفلاحي لسنة 2018/ 2019 استثنائيا إذ صدرنا حوالي 170 ألف طن بما قيمته 1.7 مليار دينار .
بالإمكان أن نتصور سياسة تعمد إلى توسيع زراعات الزيتون وتوفير كل ما يلزمها من موارد مائية وعناية الخ .. قد نصل إلى 200 أو 250 ألف طن ولكن الواضح أن إمكانيات التطور ليست لا متناهية وسنصل إلى سقف لا يمكننا تجاوزه وحتى لو بقينا في مستوى إنتاج سنوي مرتفع فزيت الزيتون لن يسهم في نسبة النمو لأنه لن يخلق قيمة مضافة من سنة إلى أخرى ..
ولكن قدرة تعليبنا للزيت لا تصل إلى %10 والباقي يباع كمادة أولية خام .. فلو بعنا كل إنتاج الموسم الفلاحي الفارط المعد للتصدير بصفة معلبة لارتفعت مداخيلنا منه على الأقل %400
كيف نحقق هذا الانتقال الذي عجزنا عنه منذ نصف قرن ؟ لن يحصل ذلك إلا إذا ما غيرنا منوالنا التنموي .
لكي نصدر كل زيت زيتوننا معلبا ينبغي علينا أن نغير كل شيء من زراعة الزيتونة وتجديدها ورعاية الشجرة ثم الثمرة ثم في طريقة قطفها وتجميعها وإعدادها للمعاصر التي يجب أن يتغير جلها بالمكننة والروبتة (robotique) والذكاء الاصطناعي والمخابر البيولوجية ثم بابتكار علامات تجارية تكون لديها القدرة على اقتحام الأسواق العالمية وتبدع في الشكل
(القارورة) والمضمون (جودة الزيت )..
ماذا يستوجب كل هذا ؟ تعليما وتكوينا واقتصادا مبنيا على الذكاء والاختراع والإبداع، حينها نحول زيت الزيتون من مادة أولية للأسواق العالمية إلى منتوج تونسي راق يُتنافس على اقتنائه في المحلات التجارية الأسيوية والأوروبية والعربية والأمريكية ..
وهذا ما فهمته بعض المؤسسات التونسية فأقدمت على هذا التحول وخلقت علامات تجارية ذات جاذبية هامة ولكن هذه المنظومة الجديدة لا تمثل عشر القطاع إلى حد الآن ..
لو تصبح هذه المنظومة هي الطاغية وعندها يباع اللتر من الزيت في الأسواق العالمية بـ40 أو 50 او 60 دينارا تونسيا لا 10 دنانير كما هو الحال الآن، عندها يمكن تحسين الوضعية الاجتماعية للفلاحين وللعملة الفلاحيين ولكل مستويات الإنتاج.
ما نقوله في زيت الزيتون صالح للنسيج وللجلود والأحذية وللصناعات الغذائية والميكانيكية والكهربائية وغيرها .. أي ما يسمى بالارتفاع في سلم القيم والانتقال من القيمة المضافة البسيطة وذات المردودية المحدودة إلى القيمة المضافة المركبة وذات المردودية العالية ..
وما هو صالح لكل قطاعات الصناعات المعملية صالح أيضا لكل الخدمات المسوقة من مقاهي ومطاعم وفنادق واتصالات وبنوك وصناعات تقليدية وخدمات الأشخاص .
والارتفاع في سلم القيم ليس سهلا ولا يتوقف فقط على سياسات عمومية وطنية لان كل بضائعنا وخدماتنا هي في منافسة شرسة على مستوى عالمي وكل تأخير في التحسن إنما سيكون تراجعا له كلفة عالية..
ولهذا المنوال الجديد كلفة ضخمة إذ هو استثمار في التعليم والتكوين والذكاء لمدة سنوات طويلة قبل بداية النتائج الأولى وهو يستوجب أيضا رؤية على المدى الطويل لا تتأثر بتغيير الحكومات وباغلبيات الحكم كما يستدعي إخراج قطاعات كاملة من مناطق رفاهها zones de coNfort بدءا بالمعلمين ثم أساتذة الإعدادي والثانوي والعالي وكذلك بكل أرباب العمل والفلاحين والعملة الفلاحيين والإدارة وسائر الموظفين ..
الارتقاء في سلم القيم يعني عقلنة كل شيء : من السياسة الى الفكر والاقتصاد والثقافة والتربية اي ثورة عظمى في الأذهان وفي الممارسات وإقبال مكثف على العمل والاجتهاد والابتكار ..
وهذا يتطلب أيضا تجسير الثقة بين الحاكم والمحكوم وبين كل مكونات العملية الإنتاجية .. والثقة معطى أساسي لأن طريق الجودة طويلة ومضنية وقد يعتريها شك وتشكيك في الخيارات العامة..
نحن نحتاج لرؤية إستراتيجية لما نريد ان تكون عليه بلادنا بعد 30 او 40 سنة وإرادة لبلوغ هذه الأهداف وعزما على تجاوز كل الصعوبات وقيادات رأي عام سياسي وجمعياتي ونقابي وإعلامي وفكري وثقافي لرسم هذه الخطة الجماعية ولتوضيحها وللحث عليها ولمعالجة كل صعوباتها والارتياب حولها .. هذا لو أردنا بالفعل الخروج من مصيدة النمو الهش ومن سجن الصراعات الإيديولوجية ..
بعد أسابيع قليلة تبدأ الحملة الانتخابية ..
ترى هل سنرى مشروعا أو مشاريع تجدد الحلم الوطني أم سنكون في معرض للملابس المستعملة ؟
لننتظر ..