أمام أمر جديد بل فقط أمام تفاقم أزمة الثقة التي تعيش على وقعها البلاد منذ فترة ..
في تونس اليوم لا احد يثق في احد وبدأنا نفقد بصفة مفزعة الجذع الأدنى المؤسس لكل عيش مشترك ممكن..وأصبح هنالك تباعد مطرد بين المعطيات الموضوعية الموحدة لكل التونسيين والتصورات التي تتحكم في فعلنا وردود فعلنا الجماعية..
وإذا ما أضفنا الى حالة الارتياب المتبادل هذه المستويات القصوى للتشاؤم لدى عموم التونسيين (أكثر من %80 من التونسيين متشائمون على امتداد حوالي هذه السنة الأخيرة) يصبح لدينا خليط مرعب يهدد بالانفجار في كل لحظة وحين .
وما زاد هذا الوضع النفسي تعقدا اقتراب المواعيد الانتخابية الوطنية واعتماد جل الفاعلين الأساسيين على عمليات التخويف والتحقير والتخوين المتبادل ..
ولو عدنا بالذاكرة إلى الانتخابات الوطنية الأخيرة في خريف 2014 لوجدنا بأن المناخات الحالية أسوأ بكثير من تلك التي سادت حينها وآلت إلى ما نعرفه من استقطاب ثنائي حدي على الأقل إبّان الحملة الانتخابية ..
هنالك مفارقة تونسية لابد من محاولة فهمها في المستقبل وهي أن تقارب الخصمين اللدودين في 2014 (النداء والنهضة أو الحداثيين والإسلاميين) لم يخفض من منسوب الاحتقان بل العكس هو الذي حصل تماما إذ وجدنا «انفلات» في منسوب الاحتقان وفي كل الاتجاهات ..
اليوم لا يكاد يمر حدث مهما كان جزئيا إلا ويثير صخبا كبيرا واصطفافات عدائية وشبه حروب أهلية ويرى المواطن نفسه بين روايات ومرويات لا يتمكن من الفصل بين الموضوعي فيها وبين الممكن وبين الغرائبي والمكذوب ، وإذا ما أضفنا إلى ذلك الاشتغال الكثيف لعدة مطابخ سياسية /إعلامية لبث الإشاعة والأخبار المكذوبة في كل الاتجاهات ندرك مدى تعفن المناخ السياسي العام الذي تعيشه بلادنا اليوم ولسنا ندري ، إلى حد الآن ، كيف سيؤثر كل هذا على سلوكيات المواطن/ الناخب بعد حوالي خمسة وأشهر ونصف من الآن.
هل يمكن ان نتجاوز كل هذا وان نعود الى مقادير دنيا من المعقولية ؟
عندما ننظر إلى المشاكل الموضوعية لتونس اقتصاديا واجتماعيا وللحلول الممكنة على المدى المتوسط نرى إمكانيات هامة للتقارب بين مختلف مكونات المشهد السياسي للبلاد ولكن الواضح ان الإشكال الرئيسي وللجميع تقريبا لا يكمن في إيجاد الحلول للبلاد بل في حرب التموقعات الحادة وفي اعتقاد الجميع بأن «حرب» 2019 ستكون حاسمة وان فيها خاسرين قد لا يتمكنون من تعويض هذه الخسارة وفيها من يعد نفسه للربح والربح مستمر في الزمن وهذه «المعركة» أصبحت تبرر كل شيء وأساسا شيطنة الخصوم ووضع النقاش العام لا على مستوى الأفكار والبرامج بل في النوايا «الخبيثة» لهذا الطرف أو ذاك.. وما يزيد الطين بلة كما يقال ان الحكومة الحالية قد خرجت من دور «الحَكَم» باعتبارها معنية بالانتخابات القادمة ولان لديها حزبا يريد أن يتواصل في السلطة قبل الانتخابات وخاصة بعدها وهكذا يصبح كل فعل منسوب للسلطة التنفيذية عنصر تجاذب سياسي حاد.. ومثال ذلك أن تنفيذ قرار الهايكا بحجز أدوات البث لقناة نسمة بالقوة العامة لا يمكن أن يفهم اليوم دون المسحة السياسية الواضحة للخصومة بين القناة والحكومة إذ لو كانت الحكومة الحالية غير معنية بالانتخابات لكان قرار التنفيذ اقل مجلبة للجدل..
الواضح للجميع بأن استرجاع هيبة الدولة لا يكون الا بإنفاذ القانون على الجميع والبدء بـ» أصدقاء» الحكام قبل «خصومهم» وإلا كانت رائحة السياسة الكريهة ، سياسة تصفية الحسابات قوية وخانقة ..
يمكن تخفيض الاحتقان إلى الأقصى لو كان الحُكْمُ حَكَمًا ولو كانت قضايا البلاد العاجلة في محور الاهتمام والنقاش .. ولكن بين المنشود والموجود البون مازال شاسعا..