الملف اللّغز «ثورة» لا تعرف شهداءها ولا جرحاها (!؟)

لا يزال ملف شهداء و مصابي «الثورة» رهن رفوف الحكومة بعد أن تم إنجازه و تسليمه لها من طرف

رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسيّة

هذا الملف الّذي يفترض أن يحتوي على مجرّد قائمة إحصائية لعدد الشهداء والمصابين ،أصبح يشكّل لغزا محيّرا( Enigme ) وتضخّم حجمه في أذهان الناس الّذين اصبحوا يتساءلون عن سبب التكتّم عليه وعن المخاوف الّتي يخفيها.

كيف لا وقد مرّت ثماني سنوات على الوقائع و عائلات الشهداء و المصابين ينتظرون نشر القائمة النهائية بالرائد الرسمي ليتسنى لهم التمتع بالتعويضات الّتي أقرّها القانون لهم، دون أي تفسير و تقديم مبرّر واضح و صريح لهذا الامتناع عن تطبيق النصوص الّتي تمّ تشريعها ، رغم تنفيذ بعضها و تمكين جزء من المستحقين من تعويضات، ورغم عدم انقطاع عائلات الشهداء و المصابين عن التظاهر وتنظيم الوقفات الإحتجاجية لتبليغ أصواتهم.

والتساؤل عن أسباب تعطيل نشر القائمات ليس مقتصرا على المعنيين ، بل نجده يتردّدُ في أوساط الرأي العام المسيّس و المتابعين لهذا الملف من الجمعيات الحقوقية في الداخل والخارج و المجتمع المدني.

لذلك دعت عدة منظمات من المجتمع المدني يوم 9 أفريل الماضي رئيس الحكومة إلى نشر القائمات النهائية ، مشيرة إلى أن قرار اللّجنة المتعلّق بنشر القائمات هو قرار إداري قابل للطعن و في ذلك إشارة منها إلى أن الضبط النهائي و البات في القائمات يبقى مستهدفا للمراجعة إلى حين إستنفاد إجراءات الطعن لدى المحكمة الإدارية ، بالتّالي فإن الإنتظار لن يتوقف على عملية النشر ذاتها بل قد يمتدّ إلى ما بعد ذلك لمدّة طويلة.

و لم يتوقف الجدل في حدود المطالبة بنشر القائمات بل تعدّاها للنقاش في أسباب عدم تولي اللّجنة نشر القائمات على موقعها الاكتروني طبق ما يقتضيه الفصل 6 من الأمر عدد 1515 لسنة 2013 المؤرخ في 14 ماي 2013 المتعلق بضبط طرق سير أعمال لجنة شهداء الثورة ومصابيها ، الّذي ينص على أن اللّجنة تتولّى نشر القائمة النهائية لشهداء الثورة و مصابيها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية و على موقعها الإلكتروني و ضمن تقريرها النهائي الّذي يرفع إلى رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة و رئيس المجلس المكلف بالسلطة التشريعية.

فالقائمات النهائية لا يقتصر نشرها على الرائد الرسمي و إنما يقع تضمينها بالتقرير النهائي وتُنشر بالموقع الإلكتروني ، و هو ما يفهم منه أنّ الإشكال ليس في النشر وإنّما في الضبط النهائي للقائمات بسبب النقص التشريعي والإخلالات الّتي رافقت مسار الملفات.

و بما أن أغلب تشريعاتنا الحديثة لا تخلو أبدا من الغموض و من مواطن التأويل و النواقص، فقد برزت في هذا الصدد قراءتان لهذا الفصل . قراءة أولى يرى أصحابها أنه للجنة صلاحية نشر القائمات دون التوقف على أي طرف آخر بعد رفع التقرير النهائي للسلطات الثلاث و ذلك في قراءة حرفية للنص . و قراءة ثانية، يتمسّك فيها أصحابها بأن مهمّة النشر بالرائد الرسمي موكولة حصريا لرئيس الحكومة الذي يمتلك صلاحية الإذن بذلك ،و هذا الموقف الأخير أكّده الأستاذ توفيق بودربالة رئيس الهيئة العليا لحقوق الإنسان و الحريات الأساسية لوكالة تونس إفريقيا للأنباء يوم 9 أفريل الماضي بقوله أن نشر القائمة بالرائد الرسمي من مهام رئاسة الحكومة لا غير .و لكن أصحاب وجهة النظر الاولى يرون أن أمر النشر لا يقتصر

على النشر بالرائد الرسمي ، بل يمكن أن يتم ذلك بواسطة الموقع الالكتروني. و هنا نقف أمام الآثار التي ترتبها عملية النشر هنا و هناك ، بإعتبار أن عملية النشر بالموقع الإلكتروني لا يمكن الإستناد إليها للحصول على التعويضات حجر أساس كل الإشكاليات. لذلك كان على المشرع ترتيب أثر الإعتراض أو التظلم على النشر بالموقع الالكتروني أو على نشر قائمة وقتية ، و ترتيب أثر الطعن على نشر القائمات النهائية وتحديد آجال ذلك .

هذا الجدل القانوني الّذي تم رفعه للمحكمة الادارية للبت في جزء منه بمناسبة الطعن في قرارين صادرين عن هيئة النفاذ للمعلومة، لن يجيب عن التساؤل المتعلّق بسبب عدم نشر القائمة ،و إنّما سيخلق إشكاليات جديدة تمّ الدفع بها إلى حلبة التقاضي الإداري بصفة خاصّة دون النفاذ إلى كنه الاشكاليات الكامنة وراء الإمتناع عن النشر من هذا الطرف أو ذاك .
و لكن بالرجوع لمجريات هذا الملف يمكن أن نستنتج الأسباب الّتي أدت إلى هذه الوضعية . فالمعلوم أنه سبق أن تمّ كشف الإحصاء ضمن تقرير أعمال اللجنة الوطنية لاستقصاء الحقائق حول التجاوزات والانتهاكات و تم الإعلان عن 338 حالة وفاة، منهم 86 سجينا، و14 من قوات الأمن و5 من الجيش، في حين بلغ عدد المصابين، وفق نفس التقرير 2147 جريحا، منهم 62 سجينا، و28 من قوات الأمن . كما تمّ ضبط قائمة إسمية لحوالي 1000 منتفع ضمن أحكام باتة للقضاء العسكري بلغت حوالي 26 مليون دينار.

و لكن حسب تقارير صحفية مستقاة من مصادر مختلفة فإن إحصائيات لجنة شهداء الثورة ومصابيها التابعة لهيئة حقوق الإنسان، تلقت 7749 ملفا، من بينها 386 ملفا يتعلق بالشهداء في حين تلقت هيئة الحقيقة والكرامة أكثر من 3000 ملف.
لذلك نكون إزاء إحصائيات مختلفة و ممسوكة من أطراف مختلفة و تجاه قاعدة مساواة مختلّة بحكم أنه تم ضبط قائمة نهائية وباتة في جزء لا يستهان به لدى القضاء العسكري في حين بقي الترقب و الغموض في بقية الملفات .

كل هذا يضعنا أمام حقيقة الطريقة الّتي تمّت بموجبها معالجة هذا الملف الّذي لم يقع التعامل معه منذ البداية بجدّية و بالحرفية اللاّزمة بعيدا عن الأجندات السياسية والترضيات والمساومات. كما أن التسرّع في صياغة النصوص القانونية المتعلّقة بهذا الموضوع أفضى إلى ترك ثغرات ونواقص ، كانت وراء الإشكاليات الّتي تحيط بهذا الملف ومنها غياب مقاييس تعريف و تصنيف حالات الوفاة والإصابات و ملابسات حصولها لفرز المتوفي أو المصاب عند الاحتجاج والتظاهر، عن المندس للنهب و التخريب لتحديد الإجراء المناسب . وكذلك عدم ترك أمر معالجة الحالات مباشرة أمام دوائر قضائية مختصّة بدل ترك الأمر للجان والهيئات . كما أن التمطيط في الحسم أتاح التلاعب ببعض الملفات و ربّما إفتعال بعضها بوسائل مشبوهة ، ممّا ادخل الشك و الريبة بخصوص العديد من الحالات .

لكن بعد أن سبق السيف العذل ، فإنه لا مناص من الحسم في مسألة هذه القائمات ، مع ترك الباب للطعون لمختلف الأطراف ، بدل التخفي وراء التعلاّت وتبادل رمي الكرة بين الأطرف المتدخلة، لأنه من المخجل ان يتواصل الأمر إلى ما لا نهاية، وتكبر الانتظارات و ربّما الأوهام لدى البعض ، في حين يبقى الشعب غير عارف بشهدائه ومصابيه.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115