المستمرة لأكثر من ثلاثة أشهر في السودان.. وفي هذا التوصيف شيء من الصحة ولاشك إذ خرج الجزائريون والسودانيون بكثافة إلى الشارع وكسروا حاجز الخوف و اجبروا نظامي الحكم على التراجع وتقديم التنازلات تلو الأخرى ولكن ما كشف عنه هذا الحراك الشعبي المطالب بالديمقراطية في الجزائر والسودان وكذلك الصراع المسلح في ليبيا أن جلّ البلاد العربية الإفريقية محكومة اليوم بصفة مباشرة من قبل الجيش وأن المؤسسة العسكرية هيمنت منذ الاستقلالات على القرار السياسي وكذلك الاقتصادي وأنها وإن تعاملت ببعض المرونة مع المطالب الشعبية في التغيير فهي تريد أن تبقى المتحكمة الأولى والأخيرة في المرحلة الانتقالية وفي مآلاتها وهذا إن كان ضمنيا في الجزائر وبغطاء مدني إلى حدّ ما فهو فج ومباشر في السودان ، فالجيش هنا لم يأت فقط للانتصار لمطالب الشعب في تنحية عمر البشير بل وليقوم باستلام مباشر للسلطة وتعطيل العمل بالدستور وفرض حظر التجول ..
وفي ليبيا تسعى قوات عسكرية متنافسة إلى فرض سلطتها على كامل البلاد وإن تعذر ذلك فعلى مواصلة الاقتسام الفعلي لليبيا ، وقبل ذلك بسنوات قال الجيش المصري انه اصغى لثورة الشارع فأزاح حكم الإخوان ولكن استأثر من جديد بالحكم وبصفة كلية وكذا الأمر أيضا في موريطانيا إذ ينحدر رئيس الدولة من المؤسسة العسكرية ..
جل الدول العربية الإفريقية قابعة اليوم تحت حكم العسكر بعد عقود طويلة من الاستقلال وبعد أن أصبحت هذه الظاهرة حالة نشاز في جل مناطق الدنيا ..
لقد كان حكم العسكر هو القاعدة في جل دول العالم الثالث في سبعينات القرن الماضي وكنا نفيق بين الفينة والأخرى على نبأ «البيان رقم واحد» وعلى احتلال القوات العسكرية للإذاعة والتلفزة ولأهم الأجهزة الحساسة ثم عمّت موجات من الديمقراطية في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا وأوروبا الشرقية أفضت غالبيتها الساحقة الى إرجاع الجيش إلى الثكنات وإعراضه المطلق ، ضمن التوافقات الديمقراطية ، عن التدخل في الشأن العام والاكتفاء فقط بمهامه الأصلية في حفظ الحدود والأمن القومي لكل بلد أو في بعض المهام الإنمائية أو الإنقاذية فقط لا غير ..
ولكن المنطقة العربية بقيت على هامش هذه الحركة التاريخية إذ لو استثنينا دول الخليج وبصفة اقل لبنان والأردن والمغرب وتونس فلا تكاد تخلو دولة عربية من حكم العسكر لفترات تطول أو تقصر وتكون أحيانا بمجلس عسكري وأحيانا أخرى بقيادة «مدنية» ولكنها انحدرت من المؤسسة العسكرية ووصلت للسلطة بفضلها ..
فنحن مجتمعات مازالت تقوم على مبدإ الغلبة ومازال فيها السيف متغلبا على القلم وعلى رأي المواطنين عامة والسيف هنا يظهر أحيانا بشكل «مهذب» وأحيانا أخرى يتطاير منه العنف الفظّ..
ولكن الجديد اليوم هو الرفض المتصاعد لحكم العسكر في بعض البلدان العربية لا عداء للمؤسسة العسكرية بل رفضا لهيمنتها على المجال العام سياسيا واقتصاديا .. والواضح أن المؤسسة العسكرية التي ذاقت حلاوة السلطة وامتيازاتها ترى نفسها الجهة الوحيدة القادرة على حماية البلاد ، ونحن هنا في حلقة مفرغة لأن هيمنة الجيش على الحياة العامة تساهم في تصحير البلاد وبالتالي تمنع الظهور الفعلي لمجتمع مدني قوي ولطبقة سياسية مدنية قادرة على الحكم ..
ليس المطلوب اليوم أن يحصل تصادم بين الشعب والمؤسسة العسكرية لا في الجزائر ولا في السودان ولا في غيرها من الدول ، بل المطلوب فقط أن يفهم الجيش أن مصلحة البلاد ومصلحته هي في ان ينقطع فعلا لمهامه الأساسية وان يترك المجال العام كل المجال العام للمدنيين.
سوف نرى في هاتين التجربتين الماثلتين أمامنا هل أن المؤسسة العسكرية في كلا البلدين ستدرك أن زمن حكم العسكر قد انتهى وأن الحل هو في الدخول في مرحلة انتقالية فعلية ينسحب فيها الجيش من مواقع القرار بصفة جدية لا صورية ثم يعود إلى ثكناته دون رجعة .
هنا وهنا فقط يمكن تصور انتقال ديمقراطي سلس وسلمي يوحد البلاد ولا يمزقها ..
إن إنهاء حكم العسكر لا يعني اتهاما له بل الذهاب إلى وضعية سليمة لا تحسم فيها الخلافات بقوة السلاح ..
من الجزائر إلى السودان مرورا بليبيا: حكم العسكر !
- بقلم زياد كريشان
- 15:49 12/04/2019
- 2648 عدد المشاهدات
اعتقد بعضهم بأننا أمام الموجة الثانية من الربيع العربي بالنظر إلى الحراك الشعبي في الجزائر وحالة الاحتجاج