غير وصفها بالضبابية والتذبذب: ضبابية في التصورات والخيارات ،و تذبذب في المواقف و في طرق معالجة الأوضاع الآنية، إلى درجة بلغت حدّ الشك في وجود كفاءات سياسية قادرة على الإحاطة والتوجيه
ولو أن الضبابية بدأت من خيارات «التأسيس» الّتي ضمّنت بدستور 2014 الّذي احتوى على تجميع أهواء ورغبات كل الفرقاء السياسيين بما كان ملائما و غير ملائم ،فإن نسج خيوط إدارة الشأن السياسي استمرّ على نفس المنوال، و أحيانا بشكل أكثر بؤسا وتعاسة، بسبب تغليب المصلحة الضيقة وغياب الرؤى الإستراتيجية القادرة على التقدم بالتجربة الديمقراطية نحو الأفضل .
مرد هذه الضبابية نقص تجربة الممارسة السياسية ومحدودية التفكير السياسي الّذي بقى حبيس مرجعيات قديمة لم تعد ملائمة للمجتمع الّذي اصبح أكثر انفتاحا على العالم ومرتبطا بنظام عولمة جديد يخضع لقواعد تخدم المصالح الإقتصاية الخاصّة.
لذلك تتخبّط النخبة السياسية الماسكة بالسلطة ، في متاهات البحث عن الاستقرار ، الّذي يكفل تنظيم الحياة السياسية و السلم الإجتماعية ، بدل الإنشغال بالعمل الإنمائي والبحث عن سبل توفير إمكانيات التطور وتخطّي الأزمة الإقتصادية الخانقة .
حتى القلّة القليلة الّتي اكتسبت تجربة سابقة، و جدت نفسها في أوضاع يتقلّص فيها هامش التحرّك و الفعل السياسي المُجدي ، خاصّة بعد أن ورطت نفسها في توافق «مغشوش» ، ولم تضع كل ثقلها لتشكيل كتلة ديمقراطية واسعة حاكمة ، وخيرت المراهنة على أغلبية مريحة غير متجانسة ، بدل ، أغلبية هشة مختلفة.
ومن المفارقات أن الضبابية لم تعد تغشى – بدرجات متفاوتة - الحزبين الأغلبيين اللذين أفرزتهما إنتخابات 2014 ، بل شملت كل الكيانات السياسية الأكثر تمثيلا للمجتمع التونسي ، مما جعلنا نشهد الموقف و نقيضه بين يوم و آخر.
فعدد كبير من أصدقاء أو أتباع الشاهد اليوم كانوا بالأمس من ألد خصومه ، و كذلك بالنسبة لرئيس الجمهورية أو بالنسبة لبقية سياسيي ذوي القربى أو الصدفة أو الإنتهازية . بل أن الشاهد نفسه ، كان وليد ظرف انقسام ، وأصبح اليوم محل وئام.
لا شك أن كنه السياسة يكون في إدارة الممكن، و لكن لا مناص من وجود ثوابت سياسية ، لقيام ديمقراطة ثابتة ، لأن المواطن يتعامل مع أصحاب قناعات و أفكار بنّاءة وليس مع كيانات سريعة التحوّل دون أي ضوابط .
و العادي أن يبقى وراء أصحاب المشاريع القريبة من المواطن ، جدار يسندهم ، ولكن إزاء الضبابية الشاملة ، تشهد تونس تحللا لجدار المجتمع المدني بمختلف مكوناته ، بسبب سياسة التهرئة الممنهجة لمختلف مكوناته وطول نسق التحولات الديمقراطية والإقتصادية والاجتماعية الّتي كانت منتظرة بعد جانفي 2011.
ولكن حزب النهضة الّذي عرف كيف يكسب المواقع في فترة الترويكا ، بقي يعمل على إنشاء و اكتساح العديد من الجمعيات والمنظمات المهنية واستعمل كل الطرق ليكون له مكان ثابت في مختلف الهياكل المهنية، كي يضمها إلى صفوفه أو يحيّدها . كما عمل على إكتساح مختلف الإدارات بالدفع نحو تجاهل مراجعة التعيينات الّتي تمّ تضمينها بخارطة الطريق الّتي صاغها الرباعي الّذي كان يرعى الحوار. وهو طبعا، لن يقلع عن القيام بمحاولات أخرى لتفكيك كل الهياكل الّتي يعتبرها عقبة أمام إنجاز مشروعه المجتمعي على مراحل .
أمّا حزب نداء تونس الّذي كان أغلبيا في إنتخابات 2014 فقد أدّت به الإنقسامات ، والصراعات الدّاخلية ،إلى الإنهماك في شؤونه الضيّقة و ترك الفراغات للخصوم السياسيين الأصليين ، و يتكرر نفس السيناريو مع الشاهد الّذي تشهد تونس بداياته ، بتقارب مغشوش آخر مع حزب النهضة. فهل يواصل في نفس الطريق أم يرجع «كيف ما يرجع الملاح للبحر الّي غرّقو..» كما تقول أغنية الهادي الجويني.
هذا الواقع السيئ وهذا المناخ المتأزم، يجعلان المجتمع السياسي في حالة من التذبذب الّتي تعمّق النفور من المشاركة في الشأن العام، ممّا يجعل مستقبل الديمقراطية الناشئة محل تخوّف .
والغريب أن المجتمع السياسي في أغلبه يشخص الواقع على هذا النحو ، ولكننا نراه يتوجّه نحو الحلول الإنعزالية ، بالرّغم من توفر إمكانيات تشكيل تجمع ديمقراطي من أجل جمهورية مدنية ، تلتف حول برنامج يتوفّر فيه الأدنى للحفاظ على مكاسب الدولة الحديثة وقيمها الجمهورية وعلى مكاسب لفيف مجتمعها المتفتح والحداثي الطامح للتقدمّ وإخراج البلاد من الخصاصة والتخلف.