تخصّ شؤون البلاد ،و كأن تونس في كوكب منفصل عن بقية دول العالم ، يُستباح فيها الحديث و التطرق لكل شأن دون أية ضوابط قانونية أو أخلاقية أو دبلوماسية أو أعراف دولية ،و دون مراعاة المصلحة الوطنية العليا الّتي تتطلّب التحسّب من كل ما يسيء إلى مصلحة تونس في كل المجالات.
فالشفافية عند هؤلاء تعني بسط كل شيء على الملإ و تناول كل الجزئيات الّتي تهم الملفات بما فيها تلك الّتي تتعلّق بنزاعات و معاملات مالية واقتصادية متصلة بملفات تقتضي السرية والتكتم أو التعامل وفق الضوابط الّتي تقتضيها متطلبات المنافسة في المجال الاقتصادي أو خطط الدّفاع في المنازعات القانونية ، أو المقتضيات الأمنية والعسكرية ، أو مستلزمات المعاملات الدبلوماسية الاقتصادية والسياسية.
و كذلك تعني الشفافية لدى هؤلاء ،أن تتسع الحرية لما يضرّ ، بمصالح الدولة ، و أمنها الترابي و الاقتصادي دون أي اعتبار لواجب التحفظ عند مباشرة المهام أو المسؤوليات ، وحتى بعدها طبق ما يقتضيه القانون.
و في هذا المضمار تابعنا تصريحات مسؤولين في الشركة التونسية للملاحة عن الحادث الأخير بين الباخرة التونسية والناقلة القبرصية في عرض البحر ،و تابعنا أيضا ردود فعل بعض العاملين على ظهر الباخرة التونسية بالصوت والصورة ،مع عدّة تعاليق صحفية وأعمال إعلامية استقصائية ، تنمّ عن غياب روح المسؤولية والاستخفاف بالآثار الّتي يمكن أن تنجم عمّا يُنقل و يُقال.
و ما تابعناه خلال هذا الأسبوع لا يحصل لأوّل مرّة ، إذ سبق أن تكرّر ذلك في عدّة مناسبات بخصوص ملفات اقتصادية وأمنية و عسكرية و مواضيع هامّة مع رئيس الجمهورية السابق المنصف المرزوقي و مع عدة وزراء و موظفين كبار ، ( مثل قضية البنك التونسي الفرنسي وإشكاليات انتاج الفسفاط و التنقيب على البترول و مغادرة بعض المستثمرين لتونس و أوضاع السياحة التونسية و الامكانيات العسكرية ....إلخ)..
فهؤلاء يتجاهلون واجب التحفظ المحمول عليهم حتى بعد تركهم لمسؤولياتهم ،فيستعرضون للعموم لمن هم في الدّاخل والخارج وقائع واعترافات و أسرار تقدّم على طبق للأعداء والخصوم و المنافسين ، فيقومون ضمنيا بدور مخابراتي قابل للاعتماد باطمئنان لصدوره مباشرة من مصادره .
إن ما يقع تجاهله ،أن نشر الوقائع و المعطيات الخاصة بالملفات المتّصلة بالحوادث و القضايا المدنية والتجارية والمالية تخضع هي الأخرى إلى القوانين المعمول بها ،و ليست مستثناة من التتبع ، لما لها من آثار على السمعة والمعاملات، ولقابلية إستغلالها في تكوين ملفات قد تكلّف المؤسسات الخاصة و العمومية أموالا طائلة ، خاصّة إذا تضمّنت إقرارا بتحمل مسؤولية حادث أو تصرف ما كما حصل في ملف الحادث الأخير ، الّذي تناول الإعلام و بعض المسؤولين تفاصيل تتعلّق به على غاية كبيرة من الخطورة .
و ما يثير التساؤل ، أن الجهات المعنية تنخرط في الحملة ، و تتابع الحكومة التجاوزات دون أن تتخذ ما يلزم من إجراءات ضد كل استخف بالحادث أو استهتر في الرد على ما يُقال ، على خلفية عدم الخشية من أحد ، و قد قال بعضهم بما معناه أنهم يرمون عرض البحر ، كل منتقد أو لائم أو معاتب.
لقد سبق أن أشرنا في أكثر من مناسبة إلى خطورة الاستهتار بمصالح الدولة ومؤسساتها ، وإلى مضار التسيب و غياب الردع لكل المتجاوزين في مختلف درجات سلّم المسؤولية ، و لكن تتكرّر نفس الأخطاء في التعامل مع بعض الملفات ، وتتفتّق مواهب المخطئين لإعادة نفس «الوصلات» في غياب أية احاطة قانونية جادّة ، ويتحمّل صندوق الدولة في النهاية تبعات التسرّع وغياب الحرفية وروح المسؤولية.
فليس من الحرية والشفافية في شيء أن نحمّل المالية العمومية تبعات نفس الأخطاء ، و كذلك أن نطلق العنان للمسؤولين كي يتصرّفوا في الشأن العام و كأنهم يتصرفون في أمور تخص ذواتهم وذممهم الخاصة .
وقد يكون الدكتور هشام جعيط على حق عندما قال في مقال له صدر في نوفمبر 2015، « نحن في دولة ضعيفة ولا يمكنها ان تكون قوية مع فتح كل أبواب الحرية دون قيد. لا بد من نوع من السلطوية والتنظيم والذكاء حتى تنتظم الأمور..».
إن ما تشهده تونس من «قعباجي» في شؤون السياسة والإدارة والاقتصاد ،و حتى في المعاملات اليومية ، يثير القلق والمخاوف، و هو ما يبرّر الدعوة إلى البحث عن سبل فرض احترام الضوابط طبق ما يقتضيه القانون و الصالح العام.