مسألة شديدة الحساسية عند حركة النهضة وهي «التنظيم الخاص» .والأساسي في رأينا ليس في تورط هذا التنظيم الخاص من عدمه في اغتيال الشهيدين أو في الإعانة عليه بل في مبدإ وجود مثل هذا التنظيم .وقد نفى بيان الحركة الإسلامية وجود أي نشاط خارج إطار القانون ، ولكن ما يبعث على الدهشة هو أن ينبري جل قيادات الصف الأول لنفي وجود أي جهاز خاص للحركة لا قبل الثورة ولا بعدها وهو نفي يبعث على الريبة لأن وجود «الجهاز الخاص» قبل الثورة مسألة مثبتة ويشهد عليها قيادات هذا الجهاز أنفسهم .
لن نتحدث هنا عن بدايات هذا الجهاز في أواسط سبعينات القرن الماضي والذي كان يعتمد على ما يمكن أن نسميه بوحدة أمنية استعلاماتية داخل الحركة يشرف عليها المسؤول عن التنظيم آنذاك الفقيد صالح كركر وبعض الخلايا أو الأفراد «النائمين» داخل المؤسسة العسكرية عبر توجيه عناصر منتقاة إلى الأكاديمية العسكرية بإشراف مباشر لأمير الجماعة آنذاك راشد الغنوشي والمسؤول عن التنظيم صالح كركر ..
ومن يشك في هذه المعطيات عليه أن يقف بنزاهة عند «ثمارها» وهي المجموعة الأمنية لسنة 1987 والتي وصلت إلى درجة من القوة بحيث كانت تستعد لانقلاب عسكري على حكم بورقيبة في 8 نوفمبر 1987 ولكن باغتها بن علي بانقلاب 7 نوفمبر ..
وهنا لدينا شهادة من أعلى مستوى وهي للمسؤول المدني عن هذا الجهاز الذي كان يضم عسكريين وأمنيين (شرطة وحرس وديوانة ) ومدنيين وهو الفقيد المنصف بن سالم وزير التعليم العالي السابق وأحد رؤساء حركة النهضة في كتيبه «سنوات الجمر .. شهادات حية عن الاضطهاد الفكري واستهداف الإسلام في تونس» وخاصة في فصله الرابع تحت عنوان «مجموعة الإنقاذ الوطني»..
اقرؤوا جيدا ما كتبه المنصف بن سالم في صفحتي 44 و55 « أول عمل قمنا به وضع عناصرنا في المواقع الحساسة يوم 7/ 11 ليكونوا في أماكن التنفيذ ،ثم أحصينا ما لنا من أدوات عمل : دبابات ، طائرات ، ناقلات جنود ، مخازن أسلحة ، ذخيرة ، قاعات عمليات ، هواتف هامة ، أجهزة اتصال لاسلكي ، مواقع اتصال الوزارات الهامة والرئاسة ، الإذاعة والتلفزة ، شركة الكهرباء .. الخ . وفي الأثناء أحصينا العناصر التي قد تعارضنا وأعدت خطة لتحييدها دون
تعرض حياتها للخطر (تم جلب 5000 مسدس غازي للغرض ) على المستوى البشري صنفنا عناصرنا في دوائر حسب الأهمية والرتبة والمهمة، الدائرة الأولى للقيادة فقط والدائرة الأخيرة للمدنيين وجلهم من الطلبة وعددهم بالآلاف يلتحقون بالعملية في ساعة متأخرة وهم مدعوون للمبيت في أماكن مخصصة ليلة التنفيذ دون إعلامهم ، سمينا ذلك المدد المدني . ركزنا خطتنا على العاصمة دون إهمال بعض المناطق..»
والنقطة الغامضة في شهادته تعود إلى إخفائه تاريخ نشأة هذا الجهاز الخاص إذ يريد إقناعنا بأنه جمّع في صائفة 1987 بعض «ضباط الجيش والشرطة ممن لهم ميولات إسلامية ومن الوطنيين المخلصين» والحال انه لو لا سياسة الأفراد «النائمين» التي كانت تلجأ إليها الحركة منذ أواسط السبعينات لما تكون بعض المئات من الضباط من ذوي «الميولات الإسلامية»
نريد من القيادات الإسلامية اليوم أن تجيبنا عن سؤال بسيط : كيف يوصفون مجموعة «الإنقاذ الوطني» والمعروفة بالمجموعة الأمنية ؟هل هو عمل خيري أم سياسي ؟ وهل نحتاج لدليل إضافي لإثبات هذا «التنظيم الخاص» وأنه كان يعمل تحت إمرة قياديين إسلاميين كبار بعضهم كان رئيسا للحركة وتولى وزارة هامة زمن الترويكا..
فالحديث أن حركة النهضة كانت حركة سرية بحكم الاستبداد ولكنها كانت دوما حركة سلمية مدنية تكذبه هذه الشهادة بما لا يدع مجالا للشك ويكذبه الكم الهائل من المحاكمين من مختلف الأسلاك المسلحة والتابعين لحركة النهضة ..
فلم الإنكار والإصرار على الإنكار ؟ !
وقصة «التنظيم الخاص» لم تنته مع محاولة انقلاب 8 نوفمبر 1987 بل تواصلت وان كان بأشكال أقل فاعلية بكثير نتيجة سياسة «تقليم الأظافر» التي اتبعها نظام بن علي واتخذ أحيانا أشكال خلايا منعزلة كمجموعة باب سويقة التي أقدمت على حرق مقر لجنة التنسيق لحزب التجمع والتي راح ضحيتها احد الحراس .
لا نعلم أن حركة النهضة ، لا قبل الثورة ولا بعدها قد أعلنت في بيان رسمي عن هذه الأجهزة الخاصة التي تكونت على امتداد كل عقود نشاطها والأكيد لدينا أن جل القيادات السياسية لم تكن على علم بما يحصل ولكنها لا يمكن لها ألا تعلم وجود مثل هذه الأجهزة على الأقل في هذا الماضي الذي وثقنا له بالاعتماد على شهادة القائد السياسي المدني لهذا الجهاز والذي تولى فيما بعد رئاسة الحركة لفترة وجيزة ..
قد يقول بعضهم لم العودة لهذه الصفحات من الماضي ؟ ألم تطوها كلها الثورة ؟ لا نعتقد أن التعتيم على الماضي القريب مفيد لبناء الحاضر ..
نحن لسنا من الذين يقولون باستحالة تطور حركة النهضة أو أن وراء كل إسلامي يختفي إرهابي بالقوة ، ولكن التطور ينبني على الوضوح وعلى نقد الماضي بشجاعة وعلى الاعتراف بهذه الأخطاء الجسيمة ، واختراق الأسلاك المسلحة لحركة سياسية هو خطأ جسيم وذلك أيا كانت « طبيعة» النظام كما يقال ..
وماضي الحركة الإسلامية يدعونا للتساؤل عن حاضرها اليوم بعد الثورة، هل قطعت مع ثقافة «التنظيم الخاص» بشكل كلي ونهائي ؟
نعود ونكرر بأننا نفصل بين مسألة اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي و«التنظيم الخاص» لحركة النهضة ، فالقضاء وحده يمكنه إثبات او نفي المسؤولية الجزائية لكل شخص ولكل جهة ، ولا نتصور – مبدئيا – ان لحركة النهضة اليوم جهازا خاصا على شاكلة ما كان لديها في ثمانينات القرن الماضي ولكن نحن بحاجة الى مكاشفة فعلية وحقيقية وهنالك انحرا فات جدت قبل الثورة وبعدها والنهضة ليست بريئة من العنف السياسي براءة الذئب من دم يوسف فلقد كانت لها أيد طولى في ما كان يسمى برابطات حماية الثورة ومجلس شوراها لم يندد بسحل الشهيد لطفي نقض بل برر بصفة غير مباشرة عملية القتل ..
نحن نعلم جيدا أن جل العائلات السياسية التونسية لم تكن ديمقراطية شكلا ومضمونا وأنها كلها تطورت في اتجاه ايجابي وتونس تحتاج إلى أحزاب قوية وممثلة ديمقراطية المعنى والمبنى ولكن هذا يستوجب الإقرار بأخطاء الماضي والحاضر أما الإنكار الكلي تحت شعار « صكّ تربح» فهو لا يبني الثقة ولا يؤسس لإمكانية طي صفحات الماضي والحاضر بجراحها وآلامها ..