غير تغيير في رقم العام، و مزيدا من التدهور لمرفق عام يُنسبُ إليه اكتسابه لسلطة مستقلة.
فبداية من كل شهر أفريل يبدأ الحديث عن تأخير القضايا في المحاكم الكبرى للسنة القضائية المقبلة ،فتقفز القضايا حوالي خمسة أشهر و تمحي من رزنامة العمل، متابعةُ النظر في النزاعات المدنية العامة و التجارية و الشغلية والجبائية.
و تُدارُ أعمال أشهر ماي و جوان و منتصف شهر جويلية من كل سنة قضائية ،بهاجس التأجيل، استعدادا لعطلة ينشغل فيها القضاة بانتظار نتيجة الحركة القضائية التي تتركهم في حالة ترقب مملة للوجهة الجديدة التي يجب التهيّؤ لها،لمجابهة ما يطرأ من تغيير في مسار ممارسة عملهم.
أما سير القضاء خلال المدة الممتدة بين منتصف جويلية و منتصف سبتمبر، فإنه يدخل في نسق إدارة العاجل و ما تقتضيه آجال بعض الإجراءات ،و هو نشاط يتميز بأداء خدمات إدارية قضائية بطيئة و متدنية لعدم توفر الزاد البشري في فترة العطل و الراحة السنوية،و لآثار حرارة الطقس و تردّي ظروف العمل ،و لقلّة حماس المباشرين للعمل ممّا يتسبّب في التعطيل أو في فصل القضايا بتسرع و يفتح الباب أمام «اجتهادات» متشنجة ومعالجة تتسم أحيانا بعدم الجدية ،يتحيّنها بعض المتقاضين لاستصدار قرارات فورية و استعجالية غير سليمة إن لم نقل تحوم حولها شبهة الفساد.
كما يكثر في هذه الفترة اللّجوء إلى تأجيل النظر في ملفات القضايا على مقاس بداية عطل القضاة ، ممّا يؤدّي إلى تجنب الفصل في القضايا والتمطيط فيها لتُدرك منتصف سبتمبر ويتخلّص المعوّض من «متاعب « البت في الملف و تلخيص قراراته العاجلة، فتتحوّل الأحكام إلى أحكام مؤجلة دون أي اعتبار لمدى أهمية الملف ولمصلحة المتقاضين.
هكذا نكون إزاء نشاط قضائي عادي لا يتجاوز سبعة أشهر تتخلّلها عطل دينية و وطنية و نسق عمل شهر رمضان و وقفات احتجاجية و إضرابات عن العمل و توترات في العائلة القضائية المصغرة والكبرى.
لقد سبق أن دعونا إلى مراجعة نظام العطل في القضاء ،لأنه لا يعقل أن يعمل القضاء بصورة عادية لمدّة لا تتجاوز ستة أشهر في السنة ، كما دعونا إلى مراجعة تطبيق الإجراءات المدنية وتيسير عمل القضاة والمحامين على حد سواء، وتوحيد الآراء والإجراءات في كل المحاكم ، لكي لا نكون إزاء «مقاطعات قضائية « لكل واحدة إجراءاتها وطرق عملها ، إلى درجة أن المتقاضي والمحامي أصبحا في حاجة إلى دليل خاص بكل محكمة . كما تمّ التأكيد في أكثر من مناسبة على ضرورة توفير الظروف الضرورية واللاّئقة لمباشرة العمل القضائي ، و بعث هياكل إستشارية وتحكيمية للمتدخلين في العمل القضائي للتشاور حول تطوير العمل القضائي وحل الخلافات الطّارئة . ولكن يتواصل اعتماد كل سبل التفرقة والمحسوبية و حتى «الزبونية» والسمسرة والضغط لإبقاء الحال على ما هو عليه.
هذا الوضع تعيشه الساحة القضائية منذ سنوات بالرغم من أن الدستور والتشريعات الجديدة جعلت المحامين شركاء في إقامة العدل بعد أن كانوا مساعدين للقضاء ، و أرست هيكل المجلس الأعلى للقضاء «طبق المعايير الدولية»، تُنتخبُ فيه أغلبية أعضائه، وتُمثلُ فيه الأطراف المتصلة بالعمل القضائي والشأن القانوني العام بنسبة الثلث.
لقد ساد الاعتقاد أن مسألة استقلالية القضاء والمحاماة ، حُسمت لفائدة الهياكل المنظمة لمرفق العدالة و أن السلطة القضائية بجناحيها ستصبح عصية على المتربصين بقيم العدل ومرتكزات دولة القانون و المؤسسات، وعلى الجانحين لخرق القانون ،و أنه بالتحام الغيورين على الحقوق والحريات ، سيُقطعُ دابر الفساد في القضاء ،و أن أصحاب الحقوق سيكونون في مأمن من أي تجاوز، وأن القضاء سيعيش «ثورة» ما بعدها ثورة ،تنزع منه المسامير الصدئة، وتُستبدلُ فيه الآليات التقليدية بآليات حديثة وناجعة ،و تتغّيرُ العقليات و تزول كل تبريرات الضغط و التدخل في شأن القضاء والتحكم فيه من السلطة التنفيذية ومن قوى النفوذ و المال.
لا شيء تغيّر على أرض الواقع. فالقلّة المستقيمة و المتمسّكة بمبادئ النزاهة وقيم العدالة ،تكدُّ و تعمل و تجتهدُ و لكن بقيت على الهامش تتحرّك في نطاق المتاح و الممكن دون أن تكون فاعلة ، في حين أن الإدارة القضائية و العمل القضائي ، إزدادا تقهقرا، فعمّت الأخطاء و زادت شؤون المتقاضين تعطّلا ،و تسرّب الفساد إلى كل المفاصل رغم غوغائية المقاومة ، بل أن المجلس الأعلى للقضاء الّذي ناضل القضاة و المحامون والحقوقيون من أجل استقلاليته ،أصبح محل تبرّم من هياكل ممثلة للقضاة أنفسهم ،و أصيبت الحركة القضائية بعاهة «التأجيل» والتأخير، ولم تر النور إلا قبل أيام من بداية السنة القضائية، وزادت البنية التحتية للمحاكم تهرؤا، و تدنت الخدمات وعمّت على المظهر العام ، حالة من البؤس يمكن معاينتها عند زيارة المحاكم وحضور الجلسات .
لقد تأكد أن الاستقلالية في منظور المتهافتين على مواقع هياكل التنظيم والتسيير ،تتوقف عند بعث «حانوت» جديد يجتمع فيه المعيّنون بالصفة أو المنتخبون،لإدارة طواحين الأزمات، والاكتفاء بـ«برشم» الأنشطة و توزيع الترضيات على الأحباب و «المؤلفة قلوبهم» (بالمفهوم السلبي للغاية ) حسب الأهواء والو لاءات. وهذا الأمر نلمسه من تصريحات عدد من القضاة و من بيانات بعض ممثليهم ،و من مخرجات الحركة القضائية الّتي وضعت في دوائر هامة من لا كفاءة صناعية لهم و لا اقتدار في الأداء و العمل و لا مسيرة مهنية متميّزة . هل راجع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء القانون الأساسي لمجلسهم ؟ نشك في ذلك ، لأنه لو تمّ ذلك لعرفوا أن كل مجلس قضائي يتداول في جميع المسائل الراجعة إليه بالنظر بمقتضى الدستور والقانون وفي كلّ ما يخص سير العمل القضائي في نطاق اختصاصه، ومن كونهم مطالبين عند النظر في المسار المهني للقضاة بالاعتماد على مبادئ تكافؤ الفرص والشفافية والكفاءة والحياد والاستقلالية. ويراعي لهذه الغاية المقتضيات والمبادئ الواردة بالدستور والمعاهدات الدولية والمعايير والشروط المنصوص عليها بالأنظمة الأساسية للقضاة...
و هل راجعوا المبادئ الواردة في الدستور والمعاهدات الدولية ..؟ بالتأكيد لا. لأنه لو حصل ذلك لتبيّنوا ما جاء في اتفاقية الأمم المتحدة المتعلّقة بمكافحة الفساد الّتي انخرطت فيها تونس ، و لوقفوا على الدور المنتظر منهم .
وعندما نتابع أعمال المجلس الأعلى للقضاء و نستعيد مسيرته القصيرة نجده لا يرتقي في دوره إلى إدارة عامة لشأن من الشؤون بكل المظاهر السلبية للإدارة التونسية بعد جانفي 2011 . نسيت الدولة و السلطة المركزية فيها والسياسيون المشرفون عليها، و كل الأطراف المتواجدة في هذا المجلس ، أن الغاية من إعادة تنظيم هذا الهيكل ومنحه صلاحيات خطيرة ، ليس للتباهي به في المحافل الدولية و التماهي بوضع حصن جديد للعدالة. كان المنتظر أن يكون هذا المجلس كما ينص قانونه الأساسي على ذلك... «مؤسسة دستورية ضامنة في نطاق صلاحياتها لحسن سير القضاء واستقلالية السلطة القضائية طبق أحكام الدستور والمعاهدات الدولية المصادق عليها...» ولكن ما نشهده بعيد عن كل ذلك وللحديث بقية...