المساواة في الارث معارضة لقطعيات الدين حسب مجلس شوراها: حركة النهضة وتناقضات الاسلاموية السياسية

بعد سنة من الأخذ والرد وأنصاف التصريحات والمواقف الفضفاضة الحمالة لأكثر من وجه وتأويل صدع مجلس الشورى الأخير للنهضة

بموقف الحركة من مسألة المساواة في الارث معتبرا اياها متعارضة مع «قطعيات الدين ونصوص الدستور ومجلة الأحوال الشخصية» اضافة إلى إثارتها لجملة «من المخاوف على استقرار الأسرة التونسية ونمط المجتمع».
ما من شك بأننا لسنا فقط أمام موقف ايديولوجي عقائدي بل كذلك أمام تموقع سياسي معين يقرأ فيه قادة الحركة مواطن الربح والخسارة لهذا القرار سياسيا بداية وانتخابيا ثانية.. ولكن ما يهمنا نحن هنا هو محاولة فهم الميكانيزمات الفكرية والسياسية أيضا التي أدت بأغلبية أعضاء مجلس الشورى الى اتخاذ هذا الموقف وبهذه العبارات بالذات.

لكي نفهم ما يحصل الآن لا بد أن ندرك أن حركة النهضة (الاتجاه الاسلامي سابقا، والجماعة الاسلامية قبل انتظامها السياسي) تعيش أزمة هوية منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، وأن هذه الأزمة التي توضع في مرات عدة بين قوسين مازالت ملاحقة لها وتظهر بين الفينة والأخرى وذلك لأن القيادة المركزية لهذه الحركة قررت ألا تحسم التناقضات الفكرية التي تشقها بصفة جدية ونهائية..

يردد رئيس الدولة أن تونس دولة مدنية لشعب مسلم، ويمكن استعارة هذه المقولة وتطبيقها على حركة النهضة. النهضة قيادة «مدنية» لجسم حركي إسلاموي مازال يحمل في ثنايا تفكيره حلم المشروع الاسلاموي، أي أسلمة الفرد والمجتمع والدولة وإن كان ذلك في أفق زمني بعيد.

صحيح أن قيادات النهضة تعتبر نفسها مجددة واصلاحية في مجال الاسلام السياسي أي مقارنة مع الشعارات المركزية التي رفعتها الحركة الأم، حركة «الاخوان المسلمون» وخاصة في صيغتها القطبية (نسبة الى سيد قطب) والتي يمكن تلخيصها في هذا الشعار المركزي «الاسلام نظام شامل للحياة» ولكن الاجتهادات النهضوية تبقى محكومة دومابالأمس واليوم، بما تسميه الحركة وما أرادت اقحامه في الدستور بـ «ثوابت الاسلام» المحددة بنصوص قطعية الورود وقطعية الدلالة أي القرآن الكريم والسنة النبوية التي أثبت علماء الحديث في الماضي نسبتها بدرجة شبه يقينية الى رسول الإسلام ثم ما كان في هذين المرجعين لا يحتمل تأويلا ثانيا في لغة العرب غير ما يفيده ظاهر النص.

ولكن اكتشفت الحركة الاسلامية منذ تلك الندوة الصحفية الشهيرة في أوت 1984 اثر خروج قياداتها من سجون بورقيبة والتي أعلنت فيها عن نيتها مراجعة مجلة الأحوال الشخصية «باعتبارها عملا بشريا» بأن التمسك الحرفي «بثوابت الاسلام» سيجعلها في عزلة سياسية واجتماعية كبرى وسيمنعها من كل مقبولية من نخب البلاد وعموم مواطنيها، ومنذ تلك الفترة تسعى قيادات النهضة الى التأقلم المكره مع المعطيات الصلبة للمجتمع التونسي، فبعد أن كانت مجلة الأحوال الشخصية كفرا وردّة عن الاسلام أصبحت تدريجيا اجتهادا مقبولا داخل المنظومة الاسلامية باستثناء مسألة التبني والتي لم تقبل بها النهضة إلى اليوم وكانت تنوي تعويضها بنظام الكفالة بعد الثورة ولكنها تراجعت أمام الرفض الشديد لأي تعديل يمس من مجلة الأحوال الشخصية.

وللتذكير فإن مراجعة موقف الحركة من مجلة الأحوال الشخصية كان شرطا لقبول امضائها على « الميثاق الوطني» سنة واحدة بعد اعتلاء بن علي السلطة.

ولكن هذا التحول المكره على مستوى القيادة لم يتبعه بطبيعة الحال تحول جدي في هوية الحركة بل حافظت داخلها على ما يمكن أن نسميه بروافد متنوعة ومتناقضة ومتداخلة ففيها، دوما، شيء، من الاخوان المسلمين ومن السلفية الوهابية ومن الخطاب السياسي للثورة الايرانية زمن الخميني ومن البراغماتية المتونسة الى حدّ ومن الانتهازية الفكرية المستعدة لانتاج خطاب لكل مستمع...

ونفس هذه الأزمة عاشتها النهضة مجددا فيما يسمى بحركة 18 أكتوبر 2005 حيث أمضت الحركة الاسلامية صحبة تيارات ديمقراطية ويسارية على جملة من النصوص المؤكدة على التمييز بين الدين والسياسة وعلى مدنية الدولة والقيم الكونية لحقوق الانسان، ولكنناكنا كذلك أمام «تطور» مكره اضطرت النهضة إليه لتفك عزلتها ولتعود تدريجيا إلى الساحة الوطنية بعد عقد ونصف من السجون والمنافي..

ولكن بعد الثورة عادت حركة النهضة الى أساسياتها الأولى تقريبا ويكفي هنا أن نراجع البيانين اللذين أصدرهما رئيسها السيد راشد الغنوشي في 6 جوان 2011 و 6 جوان 2012 لندرك أننا أمام نفس أساسيات الاسلاموية المناضلة مع تعديل بسيط على المصطلحات الأساسية لتتأقلم مع مقتضيات الثورة، تعديلات شكلية لا غير..
ويضيق هنا المجال لاحصاء كل تلك المحاولات ما بين 2011 و 2013 لاقحام الأسلمة الناعمة وحتى العنيفة على مؤسسات الدولة وترسانتنا القانونية من اقحام الشريعة في نص الدستور ثم فكرة «التكامل» بين النساء والرجال بدلا من المساواة ثم «ثوابت الاسلام» ثم تأويل الفصل الأول باعتبار الاسلام دين الدولة لا دين التونسيين ومشاريع قوانين لتنظيم المساجد والأوقاف وزجر المس من المقدسات وصندوق الزكاة..

ولقد تراجعت النهضة عن كل هذا إلا عن فكرة واحدة رئيسية وهي رفضها المستمر للفصل بين الدين والدولة.

ثم جاءت فكرة «التخصص» في المؤتمر العاشر للحركة الاسلامية في ماي 2016 حيث أقر الفصل الاصطناعي بين «الدعوي والسياسي» وتم الترويج لفكرة «الديمقراطية الاسلامية» على نموذج «الديمقراطية المسيحية».

خلاصة كل هذا أن النهضة لم تعد ولا شك تلك الحركة الاخوانية السلفية كما كانت في سبعينات القرن الماضي قبل تمأسسها في حركة سياسية في 6 جوان 1981 تحت مسمى «حركة الاتجاه الاسلامي» ولكن النهضة لم تقطع كذلك مع ماضيها هذا وأحلامها وأوهامها لأنها تخشى حصول عملية فرز حقيقية داخلها بين الأخونة الاسلاموية وبين المحافظة المدنية القاطعة مع كل مرجعية دينية اكراهية، فبقيت تتعامل مع القضايا الخلافية الأساسية بشكل انتقائي بل وانتهازي اذ القول بأن المساواة في المواريث معارضة لقطعيات الدين يستوجب، للتناسق الفكري، رفض كل ما هو مماثل له ومعارض لقطعيات الدين كأحكام عديدة من مجلتنا الجزائية وغيرها بل وحتى في نظام المواريث في مجلة الأحوال الشخصية الذي يعارض «قطعيات الدين» في بعض جزئياته.

لا يمكن لحركة اسلاموية أن تجهل أن قطع يد السارق أو جلد الزاني أو جلد الأفاكين هي أحكام أكثر قطعية ووضوحا من قاعدة «وللذكر مثل حظ الانثيين» الفرق الوحيد هو أن خوض كل معارك «قطعيات الدين» سيعزل من جديد حركة النهضة محليا، واقليميا ودوليا وسيجعل منها فصيلا هامشيا لا وزن له ولذا تتخيّر من «قطعيات الدين» ما تراه مناسبا لها ومتماشيا مع «نبض» الشارع وجالبا لها، حسب رأيها، انتصارات سياسية وانتخابية.. أما «قطعيات الدين» الجالبة للخسران فقد تخلت عنها حركة النهضة وكأنها أقحمتها في حكم الآيات المنسوخة أو المنسية..

نعلم أيضا أن بعض القيادات النهضوية لم تكن راضية على الموقف الأغلبي لمجلس الشورى وترى فيه خطأ فادحا وانتصارا للشق المتصلب داخل الحركة خاصة وأن المبادرة الرئاسية في المساواة في الارث قد تركت لكل فرد في قائم حياته الحق في اختيار قسمة تركته وفق المنظومة القانونية الحالية، ولكن يبدو أن الانتصار النسبي للحركة الاسلامية في بلديات 2018 قد دفع ببعضهم الى حماسة فائقة والى الاعتقاد، مجددا، بأن «زمن الاسلام» قد حان من جديد كما أن خوف القيادة الحالية من خسارة جزء هام من القوة الانتخابية للنهضة قد جعلها تتراجع إلى أساسياتها وتحجم عن الاصلاح الفعلي والعميق..

لاشك أن نهضة 2018 ليست هي الجماعة الاسلامية في سبعينات القرن الماضي ولا حركة الاتجاه الاسلامي في الثمانينات ولكن مازالت الحركة مسكونة بأوهام الاسلاموية السياسية ومازال طريقها نحو المدنية الفعلية طويلا وطويلا جدّا.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115