في بعض المسائل علّنا نتمكّن من استخلاص الدروس وتغيير زوايا النظر وتجاوز العقبات التي ستعترض سبيلنا في غضون الأشهر القادمة حين سيعرض مقترح رئيس الجمهورية على النقاش داخل مجلس الشعب. ويمكن أن نجمع بعض هذه الملاحظات في الآتي:
1 - يبدو الجدل متعلّقا بتركيبة اللجنة في حدّ ذاتها ومدى أهليّة بعض الأعضاء للفصل في أمور لها صلة «بالاختصاص الدينيّ» ،وهو انتقاد يعاد توجيهه من جديد والإشارة إليه في الاحتجاجات التي كان ظاهرها: الدفاع عن شرع الله وباطنها غضب «بعض أساتذة الشريعة» ممن يقدّمون أنفسهم على أساس أنّهم «العلماء» وحرّاس الشريعة وممتلكو القراءات التأويلية «الصحيحة» والوحيدة. وهنا يطفو على السطح الصراع التاريخي حول سلطة العلماء ومواقعهم وطبيعة العلاقة التي تجمعهم بالسياسة (لجما وتوظيفا) ويُظهر أيضا التنافس من أجل التموقع.... وتلك مسألة تستدعي إعادة النظر في خلفياتها فهي موصولة بأداء النخبة السياسية. فحين تنعدم الثقة في هؤلاء يصبح رهان ‘العلماء’ وهم الفاعلون الجدد، ملء الفراغ والهيمنة على الجموع.
2 - يشير عسر تقبّل التقرير إلى وجود عدّة معضلات لعلّ أهمّها: القراءة. فمنذ نشر تقرير اللجنة بدا جليّا أنّ التونسيّ سياسيّا كان أو فنّانا أو صحفيّا أو جامعيّا... أو من عامّة الناس لا يقرأ أو هو لا يتقن فنّ القراءة فقد تعوزه الرغبة أو القدرة أو العدّة المنهجيّة أو الصبر أو... ومن كانت هذه سمته فلا تتعجّب من سوء فهمه، وعسر تقبّله للأسس التي بني عليها الخطاب بل وقوعه ضحيّة من احترفوا التلاعب بالعقول. وهو أمر يتطلّب من الإعلاميين ونشطاء المجتمع المدني والنخب الفكرية تكريس جهد مضاعف في سبيل ‘تبليغ المعلومة’ والردّ على الشبهات، وتوضيح الملتبس.
3 - تبدو الثوابت لدى أغلبهم غير متصلة بالنص القرآني بل هي في علاقة وشيجة بالثبات على الموقف، والثبات على إبقاء الحال على ما هو عليه، والثبات على بنية العلاقات القائمة على التمييز، ولذلك يلتقي الإسلامي باليساري، والليبرالي و...في إرادة عدم الفهم وعدم التزحزح، وعندما تكون الامتيازات الذكورية في الميزان يحصل الإجماع. ويستدعي هذا السلوك من الحقوقيين والنسويات الاهتمام بتفكيك البنى الذهنية وتوضيح ما ترتكز عليه المعارف اليوم من مبادئ.
4 - تروم الحركات الحقوقية والنسوية تكريس ثقافة المواطنة ومن ثمّ التركيز على مكانة المواطِنة وحقوقها الكاملة باعتبارها ذاتا مستقلّة. وفي المقابل يصرّ معارضو التقرير على تحويل المرأة إلى موضوع للنزاع والجدال، وهي معارك لا تخاض على مستوى الاجتهادات المتنوعة والنقاشات الفكرية المعمّقة بل على مستوى التلاعب بالرموز والاستثمار في إنتاج العنف يكفي أن ننتبه إلى إصرار أغلب المعارضين على نسبة التقرير، وهو ثمرة جهد جماعي إلى بشرى، حتى نتفطّن إلى أنّ ربط التقرير بامرأة عن طريق الشخصنة ييسّر تحويلها إلى رمز للخطيئة فتكون كبش الفداء. وهنا وجب التأمّل في الفجوة بين العقليات والجهد المبذول من أجل تطوير مكانة المواطنين ، وهي معضلة تفضح أداء المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية على حدّ سواء.
5 - أثبت الجدل حول تقرير أريد له أن يكون شاملا، فإذا به يُختزل عمدا في ما له صلة بحقوق النساء العلاقة البنيوية بين مكانة التونسيات والسلطة السياسية، وهو أمر شرّع للدارسين الحديث عن «نسوية الدولة التونسية». فارتهان حقوق النساء بالإرادة السياسية للزعيم ، وبرغبة «السبسي» في التماهي مع التوجّه البورقيبي ومناورته مع حزب النهضة قد أفضى إلى بروز فجوة بين سقف مطالب الناشطات وما جاء في المقترح الرئاسي وكأنه لا سبيل إلى التعامل مع ملف المساواة والحريات ومواطنية النساء بعيدا عن المناورات السياسية وما تقوم عليه من مصالح ودهاء.
لم يكن التقرير فرصة للنقاش المجتمعي البناء والمتمدّن حيث يقارع الواحد خصمه بالحجّة والمنطق واقتراح البدائل وضمن أطر آداب الحوار، بل إنّه كان مناسبة لفضح علل أغلب السياسيين، ولإبراز العقم الفكري لبعض «العلماء» الذين أعوزتهم القدرة على إعمال العقل والقدرة على تطوير المعارف فأضحوا محرضين ومزورين وكذابين ومكفّرين ولا نستثني أيضا بعض أنصار الحداثة الذين انساقوا وراء «موجة» الثلب والازدراء والتعيير والتحريض ولم يستطيعوا إقناع عامة الناس...