الجمهورية المدنية الّتي تضمنها دستور 2014 الذي أسس «لنظام جمهوري ديمقراطي تشاركي في إطار دولة مدنية السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة و على مبدأ الفصل بين السلطات و التوازن بينها ...تضمن فيه الدولة علوية القانون و احترام الحريات وحقوق الإنسان و استقلالية القضاء و المساواة بين الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات والعدل بين الجهات..».
في ظل هذا الدستور يكون من حق التونسيين الّذين تطلعوا إلى إحداث تغيير تُصانُ فيه كرامتهم ويتحقّق فيه الرخاء و التقدّم دون ظلم أو قهر أو حيف ، أن يحيوا ذكرى قيام الجمهورية الّتي مهدّ ت وأسست لما هم فيه ، ويقيّموا ما تحقّق وأن يتثبّتوا من دوام مكاسبهم ،وممّا يعتريها من تهديدات ومن معوقات تعطّلها أو الحد منها .
إن القيم الثابتة في الهويّة المتأصّلة للتونسيين والمبنية على الحرية و التسامح والعدل تجد ضمانا لها في التفتح و الحداثة ومسايرة التقدّم العلمي ، و إعلاء قيم العمل لتحقيق الثروة وحسن توزيعها و توفير سبل إنمائها ، لتحقيق مستلزمات العيش الكريم للتونسيين اليوم و للأجيال القادمة.
لذلك تتسرّب المخاوف كلما اعترى السلم الاجتماعي أي اضطراب ،أو تعكّر المناخ السياسي بالمهاترات الّتي تعكّر صفو حياة الأفراد و تعطّل سبل الإنتاج و كلّما ظهرت بوادر تغليب المصالح الضيقة على مصلحة الوطن ، و كلّما تخلّت الدولة عن دورها في حفز روح المبادرة و البحث عن الحلول الناجعة و السريعة لتجاوز الأزمات الطارئة و المتجدّدة ،و تخطّي العراقيل الّتي تساهم في وضعها قوى الإستغلال و أذنابها الّتي تعمل على الشد إلى الوراء و إيقاف عجلة التقدّم .
إن التفاؤل يسكن القوى الحيّة المتطلّعة لحياة أفضل ، و على عكس ذلك، تعشّش النظرة السوداوية في عقول القوى المتقوقعة المغلولة بالماضي و النافية للذكاء و المكبّلة لقيم الانعتاق والتحرّر، و من هنا كانت الجمهورية الثانية، الّتي ورثت تداعيات نكسات من سبقها ،أمام تحديات كبيرة ، إذ أصبحت في مواجهة مفتوحة مع القوى الإرهابية و دعاة التشدّد و الدائرين في فلكهم والداعمين لهم ، و كانت في نفس الوقت ، تواجه تفاقم نوازع الشقاق والنفاق و حب الذات والصعوبات الإقتصادية و المالية.
إن قوّة المجتمعات ليست في تحقيق المكاسب وإنمّا في توفير سبل المحافظة عليها ودعمها، وذلك هاجسها. وتثبيت قيم الجمهورية المدنية من ضمن هواجس التونسيين ، الّذين يريدون اقتلاع بذور التشاؤم والخوف والإحباط ،و هذا هو دور الدولة الحديثة ، الّتي لا ينكر أحد حداثة إدارتها وتواجد أدمغتها القادرة على مزيد العطاء ، ولكن يتطلع التونسيون إلى أن تكون دولتهم أكثر جرأة و إصرارا و أوفر إرادة سياسية خلاّقة ، للذود عمّا أمكن تحقيقه رغم المصاعب ،و لتحقيق المزيد لقطع دابر الخوف من الرجوع إلى الوراء .
لا شك أن ما يسكن أوسع الفئات ، يسكن جانبا من النخبة النشيطة و كذلك النخبة الصامتة أوالمتخلية عن دورها ، و يكون من مهام الدولة ومنظمات المجتمع المدني ، أن تستبطن الشحنات الإيجابية الكامنة في مختلف القوى الحيّة ، وذلك لوقف التدهور ولمنع قوى الشد إلى الوراء من تعطيل التقدم و بث الشكّ و نوازع التفرقة والتشتيت و تعفين كل المواقع لفرض الاستكانة بغاية مزيد التمكن لتحقيق مخططاتها المجتمعية، الّتي لا تخفي التذكير بها والدعوة إلى تحقيقها، وهي مشاريع ضد الجمهورية المدنية و ضد الديمقراطية ، لأنها تحمل في برامجها نوازع البحث عن نسف مقوّمتهما من أجل تكريس الفكر الواحد و ضرب قيم الجمهورية الّتي نعيش رغم كل المخاوف على وقعها.